تمّر هذه الأيّام على العالم بأسره وعلى الولايات المتحدة ذكرى الجريمة النكراء للحادي عشر من سبتمبر الذي هزّ برجي التجارة العالمية بنيويورك باعتبارهما رمزين للإمبراطورية الأمريكية الجديدة أو القوّة المطلقة بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي واختلال التوازن العالمي. ويستعيد العالم مع هذا التّاريخ بشاعة الإرهاب والمخاطر الّتي باتت تهدّد البشرية من طرف هذا العدوّ الجديد العابر للقارات.
لم يكن هذا الاعتداء السّافر اعتداء على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب بل مثّل إعلانا لبداية فصل جديد من فصول الحضارة الحديثة هو فصل الحروب الإرهابية الّتي تعتمد أساليب مغايرة تنتفي فيها كلّ مقومات الحروب.
اعتداء ذهب ضحيته قرابة ثلاثة آلاف شخص مع انتحار 19 عشر إرهابيا اختاروا سلب أرواح الآلاف و تدمير رموز الحضارة الحديثة وبثّ الرّعب في العالم تحت تعلّة جملة من الدّوافع العقائدية الجهادية المتطرّفة الّتي تعتمد قراءة مغرضة للدّين الإسلامي في تبرير العنف السياسي، كانت تتغذّى طيلة عقود القرن العشرين من مؤلفات وكتابات سلفية رافضة للآخر، قائمة في أدبياتها على مفاهيم تقسيم العالم إلى دار الكفر ودار الإيمان، وشرعية قتل المخالفين، وإباحة دم الحكّام والمحكومين ورفض مفهوم الدّولة الحديث وقيمها القائمة عليها من دساتير وضعية و قوانين.
من الأكيد أنّه لا يمكن فصل هذا التيّارات السلفية والجهادية عن جذورها التّاريخية البعيدة التي تجد في الإرث الفقهي والكلامي القديم ما يغذّيها، وتستلهم ما جاءت به السلفية التصحيحية مع ابن تيمية وشيخه ابن القيم الجوزية، اللذين استقامت معهما جملة من المفاهيم التكفيرية منها: جاهلية المجتمعــات وإقامة الشرع ومحاربة الكفر والبدع مثلما استفادت من كتابات السلفية الجديدة خلال بدايات القرن العشرين مع الإخوان في مصر وكتابات أبي الأعلى المودودي في باكستان.
وما من شكّ أنّ الظروف التّاريخية التي عشّشت فيها هذه الرّؤى الجهادية كانت مناسبة لانتشارها وتناميها، سواء في عهد ابن تيمية وابن القيم مع زحف التتار والحلم بإحياء الخلافة وتغذية المقاومة، ثمّ كانت مقاومة الاستعمار في مصر والتصدّي لمشروع الاستيطان الصهيوني بالقدس، إضافة إلى الصّراع بين المسلمين والهندوس الذي كان وراء الانقسام وتكوين دولة باكستان، كانت أرضية مناسبة لانتشار هذا الفكر والترويج لمقولة الجهاد والتضحية بالنفس من أجل تحقيـــــق الخلافة الشرعية. وتحكيم الشرع الإلهي خاصّة في مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي سابقا من جهة وبين الغرب الرأسمالي من جهة أخرى. تلك الثنائية الّتي استغلتها هذه الجماعات واستغلها القطبـــان من أجل توظيفها لخدمته ساهمت في توفير أرضية خصبة لتنامي هذا الفكر، وبدأ يطــرح نفسه كقطب ثالث أو بديل خاصّة مع انتصار الثورة الإيرانية التي حوّلت الحلم في تكوين دولة إسلامية إلى حقيقة.
لقد كان انتصار الثورة الإيرانية سنة 1989 وسقـوط المعسكر الاشتراكي بداية لحظة تاريخية جديدة تحوّل فيها الصّراع بين الإمبريالية الغربية المنتصرة والّتي غزت العالم وتحوّلت مع التسعينات إلى عولمة كونية وبين قطب جديد صاعد بدأ يطرح نفسه كخيار يقوده حسب ما يسميّه الصّحفي الفرنسي “برونو إيتيان” الذي عايش الحرب السوفياتية الأفغانية “الإسلام الرّاديكالي” أو الحركة الأصولية العالمية. وكان لهزيمة الاتحاد السّوفياتي وخروجه من أفغانستان أثر كبير في نفوس الجماعات الإسلامية المختلفة،غذّى لديها حلم النّصر واستعادة دورها التّاريخي عن طريق فلسفة الجهاد والتوحش. بــل ساهمت الكثير من التقارير والحكايات الأسطورية في دفع هذه الرّوح والاستعداد للموت من أجل الشهادة والجنة.
- ماذا خلّفت هذه الجماعات:
رغم المآسي الكبيرة الّتي تركتها عملية الحادي عشر من سبتمبر وآثارها على المستوى السياسي والاجتماعي والقيمي بين الغرب والشرق، فقد غذّت هذ الجرائم وما تلاها نزعة العداء للعرب والمسلمين والإسلام، وأصبح الحديث عن الإرهاب مقترنا بالإسلام. وظهرت كتابات تدفع نحو ضرورة القضاء على الإسلام ومحاصرة العرب والمسلمين وتحميلهم مسؤولية الإرهاب العالمي. بل زادت هذه الجماعات في تدعيم اللحمة الغربية بين بلدان العالم الحرّ، ووحدت جهـودها في تتبّع الإرهاب في أوكاره عبر العالم. أو إعادة تصديره نحو مواطنه الأصلية ليصبح قضية داخلية تعاني منه البلدان المغاربية والعربية في الشرق الأوسط وبلدان السّاحل والصحراء مثلما نعايش آثاره المروّعة في هذه البلدان.
لقد قضى الإرهاب الأصولي مع القاعدة ثمّ مع التنظيمات الجديدة بمختلف تسمياتها على كلّ مشاريع التنمية والنهوض للبلدان العربية، وأعاق استفادتها من علاقاتها الدّيبلوماسية، وعمّق قضاياها الدّاخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وجعلها تعمل على رفع وصمة الإرهاب عنها وإقناع الشركاء الغربيين بانخراطها في مقاومته. وعموما فإنّ شيوخ هذه الجماعات وفقهائها وجنودها الذين اختاروا طريق القتل والتّدمير ورفعوا شعار الموت تحت اسم العناية الإلهية والتّضحية من أجل إعلاء كلمة الربّ لم يكونوا إلاّ مجرمين وعملاء موظفين وجهلة أعداء الحياة والحضارة والرقيّ. ولذلك أصبحت قضية مقاومة الإرهاب بالنّسبة إلى بلداننا قضية مركزية محمولة على عاتق الجميع من قوى مدنية وسياسية ومثقفين وإعلاميين، تجفّف منابعه الّتي يتغذّى منها منها محاربة الفقر والتسرّب المدرسي ومراقبة الخطاب الدّيني في المساجد ليكون خادما للرّوح الجماعية والتّربية الاجتماعية والاعتدال، وتدعيم الحريّات وروح الإبداع والمبادرة وإصلاح التّعليم ليواكب روح العصر الرّقمي وتحقيق العدالة الاجتماعية، لأنّ الحلّ الأمنيّ لوحده عاجز عن غلق منافذ هذه الجحور الّتي تتجمّع منها برك تصبح فيما بعد قنابل موقوتة تهدّد الأمن والاستقرار.
ورغم مراهنة الدّول الغربيّة على دعم ما يعرف بالإسلام السياسي المعتدل، وعملها على تمكينه من الانخراط في الحياة السياسية في البلاد العربية والإسلامية، عسى أن تجد فيه خطّ دفاع على مستوى الخطاب والممارسة يكسر أمواج الحركات المتطرّفة ويروّضها فإنّ هذه الجماعات والأحزاب المسماة بالإسلام السياسي وجدت نفسها مرفوضة اجتماعيا وسياسيا، عاجزة عن التخّلص من الإرث السلفيّ، والقطع مع المقولات السلفية في تصوّرها للدّولة والمجتمع والعلاقة بالآخر.
غير قادرة على ترسيخ ثقافة الاعتدال والحقوق والحريّات والمواطنة أمام ضغط مرجعياتها التقليدية. وبيّنت التّجارب في أكثر من بلد من مصر إلى تونس إلى المغرب أنّها غير قادرة على قيادة الدّولة وحماية مبادئها، يـــراقفها الفشل أينما حلّت مثلما حدث تونس والمغرب أخيرا.
بعد أن اكتشفت الشّعوب ازدواجية خطابها وتعاملها مع الواقع تعاملا براغماتيا قائما على المداهنة والنّفاق ومجاراة الريّاح من أجل التمكّن من مفاصل الدّولة والمجتمع تمهيدا لتحويلهما بعد ذلك صورة رحمانية.