ظلت تركيا على امتداد ردح من الزمن غير قصير، رقم ذا شأن في المعادلات الإتزانيّة الإقليميّة منها كما الدوليّة، لقد شكلت عديد المحددات زخما بارزا في ذلك الأمر، فإلى جانب تركيا التاريخيّة وريثة الدولة العثمانية الآفلة (معاهدة لوزان 1923) نجد تركيا الجغرافيّة ذات المساحة القارة بأطرافها المتراميّة والقابعة بين قارتين غير متجانستين وحضارات غير متناغمة جعلها بحق القلب النابض والملتقى الحيوي لمختلف الأحداث والتجاذبات.
في كتابه الشهير-العمق الاستراتيجي- أبرز ثعلب السياسة الخارجيّة التركيّة أحمد داوود أوغلو فكرة تصفير المشاكل أو سياسة اللامشكلة، أي محاولة بناء جسور وروابط عميقة مع مختلف الفواعل الأخرى خاصة الإقليميّة، وربما هذه الفكرة تجرنا إلى فهم أعمق لعلاقات تركيا الخارجيّة التي هي بالنهاية نتاج مجموعة من التفاعلات التاريخيّة والحضاريّة والجغرافيّة وقبل ذلك كله الدينيّة، وهي أمور تجعل من تركيا ثنائيّة الهويّة تتأثر –ولا ريب-برياح الفناءات المتاخمة وحتى البعيدة.
متغيّر الهويّة ذا أثر على السياسة الخارجيّة التركيّة، لكن دون إهمال لحجم ووزن أثر باقي المتغيرات الأخرى التي تشكّل فيما بينها فسيفساء كبيرة ذات ألوان، لكن وبالعودة إلى أثر متغيّر الهويّة التي يبدو أنها فعلا مركبة (الامتداد نحو الشمال الأوروبي والامتداد من جهة ثانيّة نحو الجنوب الإسلامي)، لكن الهويّة المؤصلة تنبني أساسا نحو البعد الإسلامي وهي هويّة بطابع حضاري، فالهدف من وراء هكذا تفعيل هو الولوج لحضيرة الاتحاد الأوروبي باستعمال التوجه نحو الفناء الإسلامي وهو ربما يطابق الهوية المركبة لألكسندر ووندت (الهوية- المصلحة).
توجه تركيا نحو الفناء الشمالي الأوروبي لها تغذيه مصالحها الجيّو- استراتيجيّة وتدفعه السوانح( إعتبارها حليف هام في المنطقة/ كونها عضو فاعل في حلف الناتو..) لكن مقابل تلك الفرص تكبّل الأصفاد يد هاته الدولة الهامة من أجل ترجمة تلك الفرص إلى حقائق (الهويّة الإسلاميّة/ مشاكل الأقليات خاصة الأكراد/ سياساتها التعاضديّة البنكيّة...).
أوروبا تريد تركيا كذئب من دون أسنان طبيعيّة، فهي من تصنع له الطاقم وتضعه في فمه كما تشاء وقت ما تشاء، وإلاّ كيف نفسّر استهلاكها للوقت في ما يخص مسألة الانضمام للإتحاد الأوروبي رغم أن تركيا تتفوّق عدة دول عضوة في المجال الاقتصادي والتجاري، ونعتقد بأن مسلسل الإنضمام سوف يشهد مزيدا من المماطلة والتسويف رغم حجم الضمانات و التطمينات التي قدمتها تركيا لحلفائها وشركائها الغربيين، لكن يبدو أن ثمّة ما يقض مضجع أولئك القوم الذين يتوجسون خيفة من كل ما هو إسلامي شرقي، وهو ما يضع إشكاليّة الصراع بين الأديان والحضارات مجددا ودائما فوق طاولة كل المفاوضات والاتفاقات من هذا الحجم وعلى هذا المستوى، وإن تمّ الأمر بشكل ضمني أو مستتر.
تركيا وفناءها الجنوبي الشرقي الإسلامي العلاقة المشكلة القابعة في الخاصرة، قد نطرح سؤالا بسيطا هاهنا: ماذا لو شهد هذا الفناء المتاخم المهم طفرة حقيقيّة وقفزة نوعيّة في جميع أبنيته كما لو كان نفسه الإتحاد الأوروبي، هل سنشهد نزوعا تركيّا في التوجه صوبه والنأي عن أيّ محاولة للانضمام إلى الفناء الشمالي الأوروبي؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بنعم، إذن فتركيا لن تلام ربما على مساعيها بالتوجه أو الهجرة نحو الشمال ما دام الجنوب نائم قرير العين راض بواقعه في ظل عالم مستقطّب، ونحن اليوم نشهد مزيدا من التوجه نحو التعدديّة والبراجماتيّة، ليس دفاعا عن أحد ولا عداءً تجاه أحد ولكن سؤال برئ في المخايل يدور.
عزيز فيرم: كاتب سياسي وروائي جزائري