في زحمة الأسواق وأروقة المتاجر، يطل شبح جديد يثقل كاهل المواطن التونسي، أزمة احتكار السلع وارتفاع أسعار الخضروات، وفي مقدمتها البطاطا، تلك المادة الأساسية التي تحولت من غذاء يومي إلى حلم صعب المنال لدى الكثيرين، ظاهرة أصبحت جزءا من المشهد الاقتصادي والاجتماعي، تعكس أبعادًا تتجاوز مجرد قوانين العرض والطلب لتصل إلى أزمة قيم ومسؤوليات.
مقالات ذات صلة:
دوريات أمنية قارة لمراقبة أسعار البطاطا والحدّ من الاحتكار
رئيس الجمهورية يلتقي وزيري الداخلية والتجارة لبحث مكافحة المضاربة والاحتكار
سعيّد يدعو لسياسة مستمرة في مواجهة الاحتكار ويوجه بقرارات عاجلة لضبط الأسعار
على الرغم من أن وزارة التجارة تحدد أسعارا مرجعية للخضروات والمواد الأساسية، إلا أن الالتزام بها يبدو بعيد المنال في الأسواق اليومية، اذ تفرض المضاربة والاحتكار منطقها الخاص، متجاهلة أي ضوابط قانونية وبغياب الرقابة الدائمة، تتسع فجوة بين ما يفترض أن يكون وما هو موجود بالفعل.
ما يحدث في الأسواق ليس مجرد خلل اقتصادي، بل هو مرآة تعكس تهاوي منظومة الرقابة والمتابعة، لتجعل المواطن البسيط يطرح العديد من الأسئلة كأين الجهات الرقابية؟ ولماذا يغيب الردع الجاد للمحتكرين؟ الإجابة، وإن بدت معقدة، تشير إلى تواطؤ ضمني دون وعي بين من يفترض أن يحمي المواطن بعدم تطبيق عقوبات صارمة ومن يستغل حاجاته اليومية.
المواطن البسيط، الذي بات يئن تحت وطأة الارتفاع الجنوني للأسعار، يجد نفسه عاجزًا أمام معادلة غير متكافئة، دخله المحدود لا يستطيع مجاراة جشع السوق، وحاجاته الأساسية تتحول إلى كماليات، فالبطاطا مثلا التي كانت يوما "طعام الفقراء"، أصبحت رمزا للأزمة التي تضرب صميم الأمن الغذائي.
اذا يعيش المواطن هذا الواقع بمرارة، حيث يجبر على التخلي عن جزء من احتياجاته الأساسية أو الغوص في دوامة الدين لتأمين قوت يومه، وخلف هذه المأساة اليومية يكمن سؤال أعمق هل يمكن أن تختزل قيمة الإنسان في قدرته على شراء خضروات كانت يوما من أبسط حقوقه؟
الاحتكار ليس مجرد ممارسة اقتصادية غير أخلاقية، بل هو اعتداء مباشر على حقوق المجتمع،فحين يحتكر البعض السلع لرفع أسعارها، فإنهم لا يسرقون الأموال فقط، بل يسرقون أيضا الطمأنينة والكرامة من الفئات الأكثر ضعفا، هذا النوع من الجشع يعيد تشكيل المجتمع، محولا التضامن إلى تنافس قاسٍ يقتل قيم العدالة والمساواة.
أمام هذه الأزمة، تبدو الحلول المتاحة غير كافية، اذ أن المبادرات الحكومية غالبا ما تكون ضعيفة أو بطيئة التنفيذ، فلا يمكن مواجهة هذه الأزمة دون تفعيل أدوات رقابية صارمة وفرض عقوبات حقيقية على المحتكرين، لكن في الوقت ذاته، يبقى الوعي الجماعي عاملا حاسما، حيث يحتاج المواطنون الى كسر دائرة الصمت وتوحيد جهودهم للمطالبة بحقوقهم والدفاع عن قوت يومهم.
أزمة البطاطا ليست مجرد مشكلة اقتصادية عابرة؛ إنها اختبار لقيم المجتمع ومسؤوليات أفراده ومؤسساته، ففي زمن الأزمات، تظهر الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين السوق والبائعة والإنسان الطبيعي بكافة طبقاته الاجتماعية، بين الربح والمسؤولية، وإن لم تتحرك العجلة نحو إصلاح حقيقي وشامل، فقد يجد المجتمع نفسه غارقا في دوامة أعمق من الفوضى واللامساواة.