أخصائيون يؤكدون أن رفض الواقع وانسداد الآفاق أبرز أسباب انتحار الشباب، وأن اختيار بعض الأطفال الموت سببه التفكك الأسري وتردي الأوضاع المعيشية.
لا يكاد يمر يوم في تونس دون أن تتداول وسائل الإعلام ومنابر التواصل الاجتماعي وقوع محاولات انتحار منها التي تنجح ومنها التي تفشل، وبالرغم من اختلاف الأسباب التي تدفع الشخص إلى التفكير في الانتحار كطريقة تخلصه من حياته ومشكلاته ورغم اختلاف طرق الانتحار التي باتت الهجرة غير الشرعية والتفجيرات الانتحارية من أبرزها، إلا أن الثابت في تونس أن نسب الانتحار في ارتفاع خصوصا في صفوف الأطفال والمراهقين والشباب من الذكور، وهو ما دفع خبراء في علم النفس والاجتماع إلى دراسة الظاهرة واستنتاج أن الأسباب الأسرية وحالة اليأس من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية متسارعة الأحداث التي أصابت هذه الفئات تأتي في أعلى هرم دوافع الانتحار.
تونس – أكد تقرير أصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن حالات ومحاولات الانتحار في تونس بلغت 34 حالة في شهر سبتمبر، وسببها، وفق تفسير عدد من الخبراء في علم النفس وعلم الاجتماع، تسارع الأحداث والتغييرات الطارئة على المشهد الاجتماعي والاقتصادي.
وكشفت نتائج التقرير أن فئة الذكور تستأثر بعدد حالات ومحاولات الانتحار المسجلة في شهر سبتمبر الماضي. وبلغت نسبة حالات ومحاولات الانتحار 27 حالة لدى الذكور و7 حالات في صفوف الإناث، وتستحوذ الفئة العمرية الشابة من 16 الى 35 سنة على 55 بالمئة من الحالات المسجلة فيما تبلغ هذه النسبة لدى الفئة العمرية الأقل من 15 سنة 9 بالمئة.
وأشارت المختصة في علم الاجتماع رحمة بن سليمان إلى أنّ الانتحار يعد ظاهرة اجتماعية مرتبطة بعدة متغيرات، وقد ارتفعت نسب الانتحار أو الإقدام عليه بتونس في المدّة الأخيرة بسبب عدم قدرة الشخص على تحمّل التغييرات الطارئة والمتسارعة على المشهد الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، أو العيش وسط ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بـ”مجتمع المخاطر” الذي يجعل الفرد غير قادر على استيعاب ما يدور حوله من تعاقب متسارع للأحداث.
وأوضحت بن سليمان أن دوافع هذه الظاهرة الاجتماعية المنتشرة لدى الشباب تندرج تحت طائلة نظرية الحرمان “النسبي”، أي أن الشباب التونسيين بعد اندلاع ثورة 14 يناير ارتفع سقف انتظاراتهم وعلقوا آمالا كبيرة على تغير الوضع الاجتماعي والمهني، خصوصا، إلا أنهم لم يجدوا ما يرنون إليه حيث اصطدمت هذه الانتظارات بواقع عجز الدولة عن تحقيقها مما ولّد في داخلهم صراعا نفسيا ظهر في تعبيرات مختلفة على غرار الاحتجاجات العنيفة أو اللجوء إلى الانتحار كحركة احتجاجية على الوضع العام وتعبيرا عن الرفض واستحالة مواصلة العيش في مثل هذه الظروف.
واعتبرت بن سليمان أن الفقر والتهميش والبطالة تؤدي إلى عجز الشاب عن إثبات ذاته وتحقيق كرامته وهو ما يدفعه الى فكرة الانتحار والإقدام عليه، مشددة على أنّ هذه العوامل وإن ساهمت في ارتفاع نسب الانتحار في تونس إلا أنّ ذلك يختلف من فرد لآخر من خلال حسن إدارة الأزمة الاجتماعية التي يعيشها وفق آليات دفاعية مرتبطة مباشرة بالخصوصية النفسية للشخص.
ويمكن تفسير ذلك بأن النسبة الأكبر من المقدمين على محاولات الانتحار هم من فئة المراهقين والشباب (من 16 إلى 35 سنة) وهي المرحلة العمرية التي يسعى فيها الفرد إلى الاستقلال بحياته والخروج إلى العمل وبداية التخطيط لمستقبله، غير أن هذه الفئة العمرية تعاني من البطالة وغيرها من الظواهر الاجتماعية مثل الفقر فيجد الشباب أنفسهم في هذا العمر عبئا على الأسرة والأبوين فبدل أن يساهموا في موارد الأسرة كعناصر منتجة تحوّلهم البطالة إلى أفراد عاجزين عن المساعدة والاستقلالية وعن بناء حياتهم كما يريدون، ويشعر الكثير منهم بحسب علماء الاجتماع بأنهم يثقلون كاهل الوالدين بطلب مصروفهم الشخصي وبتوفير المسكن وغيره من مستلزمات العيش.
وأرجع المختص في علم النفس أنور جراية أسباب ظاهرة الانتحار أو الإقدام عليه إلى الشعور باليأس وانسداد الآفاق بسبب دوافع شخصية أو عائلية أو اجتماعية، مؤكدا أن حالات اليأس لدى الشباب تعود أساسا إلى البطالة وانسداد الآفاق المهنية والوظيفية خاصة لدى أصحاب الشهادات العليا، ما يجعلهم يواجهون الافتقار لأبسط أساسيات العيش الكريم.
واعتبر جراية في حديث لوكالة الأنباء الرسمية التونسية أن الانتحار تختلف أشكاله؛ فهنالك المباشر وغير المباشر على غرار العمليات الانتحارية الإرهابية التي يقوم بها الشاب لدى استقطابه من طرف الجهات الإرهابية إلى جانب الهجرة غير الشرعية التي تجعله يلقي بنفسه في قوارب الموت.
أما رئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين مصطفى الفرشيشي فاعتبر أن الفراغ العاطفي والتهميش الأسري والتقصير في تأطير الأبناء من جانب الوالدين إلى جانب عدم استقرار الأسرة كلها من مسبّبات الانتحار والإقدام عليه.
وتقول الإحصائيات إن محافظة قفصة (جنوب غرب تونس) تحتل صدارة جهات البلاد التونسية في محاولات الانتحار حيث سجلت 13 حالة خلال شهر سبتمبر الماضي، تليها محافظة القيروان بـ4 حالات ثم محافظة نابل بـ3 حالات والمنستير بحالتين.
وبحسب الإحصائيات منذ بداية هذا العام وإلى حدود نهاية شهر سبتمبر فقد سجلت 281 حالة ومحاولة انتحار، منها 45 حالة بين الأطفال دون سن الـ15 عاما، وهو ما نسبته 16 بالمئة من إجمالي الحالات. واعتبر خبراء ومحللون أن تونس تشهد ارتفاعا ملحوظا في عدد حالات ومحاولات الانتحار في صفوف الأطفال والمراهقين خلال السنوات السبع الماضية، وهو ما يهدد الأسرة والمجتمع، وينذر باستمرارها وزيادتها في ظل عدم معالجة هذه الظاهرة رسميا.
وبحسب علماء الاجتماع والنفس فإن الأسباب المتعلقة بانتحار الأطفال دون عمر الـ15 عاما ترتبط في الغالب بالمحيط الأسري، ويرجع المختصون تفاقم هذه الظاهرة الى أزمة ثقة يعاني منها الطفل بسبب غياب الحوار داخل الأسرة، والنقص في الإحاطة والرعاية النفسية والتربية بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية والفقر والتفكك الأسري بسبب الطلاق أو غيره، وكذلك ضعف المرافق الاجتماعية والترفيهية والتربوية، وابتعاد العائلة عن دورها في المتابعة والمراقبة، وتراجع دور المؤسسات التربوية، إضافة إلى تناقل أخبار الانتحار عبر منصات التواصل الاجتماعي بين الأطفال، والتي من شأنها أن تثير التفكير فيه عند الصغار في السن.