تفاقمت هجرة الكفاءات الجامعية التونسية نحو دول الخليج العربي والدول الأوروبية خلال الثلاث سنوات الأخيرة، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل الجامعة التونسية، التي تستعد لإحياء ستينية تأسيسها العام المقبل، في الوقت الذي غابت فيه عن تصنيف أفضل 500 جامعة في العالم وحتى عن تصنيف أفضل 15 جامعة أفريقية.
تونس - يتصدر الأجر المادي المتدني طليعة أسباب هجرة الجامعيين التونسيين، خاصة وأن الإحصائيات تشير إلى أن راتب الأستاذ الجامعي في تونس هو الأضعف على مستوى العالم، لا بل هو الأقل أيضا مقارنة بدول عديدة في المغرب العربي.
وأفاد مصدر بوزارة التعليم العالي في تصريحات لـ”العرب” بأنه تم إحصاء مغادرة حوالي 800 إطار جامعي خلال السنوات الثلاث الماضية، مع تسجيل قرابة 200 مطلب جديد للمغادرة لدى وكالة التعاون الفني (حكومية) بمستهل السنة الجامعية الحالية.
ويؤشر هذا المعطى على تنامي ظاهرة هجرة الكفاءات الجامعية التونسية للتدريس والاهتمام بالبحث العلمي في جامعات الخليج العربي أو المؤسسات الجامعية الأوروبية والأميركية التي توفر لهم عائدات مالية كبيرة وإمكانيات بحثية متطورة.
وأكد المصدر أن المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة الأولى من حيث استقطاب الأساتذة الجامعيين التونسيين، تليها كل من البحرين وقطر ثم الدول الأوروبية ودول أميركا الشمالية.
وكشف المصدر ذاته عن وجود شغورات تقدر بحوالي 2600 خطة تدريس في إطارات التدريس والبحث بجميع مؤسسات التعليم العالي، في الوقت الذي يوجد فيه أكثر من 3 آلاف صاحب شهادة دكتوراه عاطلون عن العمل. وتأتي هذه التصريحات في وقت أعلنت فيه الوزارة عن غلق باب انتداب أساتذة جامعيين للسنة 2018 نظرا للصعوبات الحادة التي تمرّ بها المالية العمومية للدولة. وأفاد الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي حسين بوجرة بأن هناك نقصا في الأساتذة من الصنف الأول والمخولين لتأطير الدكتوراه والماجستير، حيث يتراوح عددهم بين 2300 و2400 أستاذ من بين حوالي 19 ألف أستاذ تعليم عال.
واعتبر بوجرة أن النسبة ضئيلة وأنه لا بد من العمل على دفع عملية الارتقاء وتحفيز البحث الجامعي، مشيرا إلى أن المبالغ المالية المعتمدة لتحفيز الأساتذة على البحث ضئيلة، وأنه لا وجود لأي حافز مادي للبحث والتقدم في الأطروحات. وأكد أن هناك إشكالا في التدريس بالجامعات التونسية لأن حوالي 90 بالمئة من الأساتذة تقريبا يشتغلون في الجامعات الخاصة بالتوازي مع التعليم العمومي، في حين أن هناك مطالب بجعل ثلثي المدرسين بالقطاع الخاص من القارين.
وتشكو الشعب العلمية مثل الفيزياء والرياضيات والهندسة والعلوم الطبيعية نقصا في الكفاءات، فيما طال النقص أيضا عددا آخر من الاختصاصات مثل العلوم الإنسانية وغيرها من الشعب.
وقال المنسق العام المساعد لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين زياد بن عمر في تصريحات لـ”العرب” إن “ميزانية البحث العلمي في تونس تقدر بـ0.86 بالمئة من ميزانية الدولة، وهو ما يفسر هشاشة الوضع البحثي في البلاد”.
ونفى بن عمر ما صرّح به وزير التعليم العالي سليم خلبوس حول هجرة 800 أستاذ للجامعة التونسية خلال الثلاث سنوات الأخيرة، قائلا “إحصائياتنا تشير إلى مغادرة أكثر من 3 آلاف أستاذ للعمل خارج البلاد”.
وأكد أن الدوافع المادية من أهم أسباب هجرة الأساتذة نحو أوروبا وخاصة دول الخليج العربي التي توفر حكوماتها اعتمادات مالية هامة للبحث العلمي إلى جانب توافر بنية تحتية هامة تشجّع على التطوير.
وأضاف “الأستاذ الجامعي في المملكة العربية السعودية مثلا يتقاضى 12 ألف دينار (5800 دولار تقريبا) دون احتساب المنح في حين يتقاضى في تونس 2000 دينار (800 دولار) في ظل غياب المنح التحفيزية”.
ودعا بن عمر إلى الزيادة بنسبة 2 بالمئة في ميزانية وزارة التعليم العالي لمدة 3 سنوات من أجل تحسين الوضعية المالية للأساتذة ووضعية المؤسسات البحثية، منتقدا التوجه الحكومي نحو التخفيض في ميزانية الوزارة ليصل سنة 2017 إلى 1.9 بالمئة من ميزانية الدولة بعد أن كان 2.9 بالمئة سنة 1998.
واتهم المنسق العام المساعد لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين لوبيات الفساد داخل الوزارة وخارجها بتهديد مصير الجامعة العمومية من خلال العمل على تعطيل الإصلاحات وإفراغ الجامعة من كفاءاتها خاصة الأساتذة المحاضرين.
ومن جانبها انتقدت حياة العمري، النائبة وعضوة لجنة الشباب والشؤون الثقافية والتربية والبحث العلمي بمجلس الشعب (البرلمان)، ظاهرة الأجور المتدنية للأساتذة الجامعيين في تونس، مؤكدة أنها من أضعف الأجور على مستوى العالم، وهي كذلك من أهم أسباب هجرتهم إلى الخارج.
وقالت العمري، الرئيسة الشرفية للفيدرالية الفرنسية للمخترعين في تصريحات لـ”العرب” إن “هجرة الأساتذة الجامعيين التونسيين إلى خارج البلاد وخاصة باتجاه دول الخليج تعود بالأساس إلى توفير هذه الدول للإمكانيات المادية والبحثية اللازمة”.
ونفت تصريحات وزير التعليم العالي سليم خلبوس الذي أرجع فيها عدم فتح باب انتداب الأساتذة الجامعيين لسنة 2018 إلى ضعف الموارد المالية للوزارة، قائلة إن “الموارد المالية ليست السبب الأهم لإغلاق باب الانتدابات”.
وكان وزير التعليم العالي سليم خلبوس قد كشف في وقت سابق أن مراكز البحوث التابعة للوزارة لا تتحصل سوى على 35 براءة اختراع سنويا من ضمن 11 ألف باحث مسجلين بمراكز البحث. لكن الرد على الوزير جاء ساخنا خلال جلسة برلمانية لمجلس نواب الشعب (برلمان) حين قالت النائبة عن حزب نداء تونس فاطمة مسدي إنها “ستشعل حربا على الوزير الذي حطم آمال الدكاترة بتصريحه”.
ودعت العمري إلى ضرورة إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس من خلال التوزيع العادل للأموال والطاقات البشرية، مشيرة إلى أن 80 بالمئة من التخصصات العلمية لا تتماشى مع متطلبات سوق الشغل، مؤكدة أن استراتيجية إصلاح التعليم العالي التي انطلقت منذ سنة 2011 لم تحقق إلى اليوم أي تقدّم يذكر، وهو ما يؤشر على المزيد من تفاقم ظاهرة هجرة الكفاءات الجامعية.
ويسمح القانون التونسي للأساتذة الجامعيين بالتدريس خارج البلاد لمدة 5 سنوات مع إمكانية التمديد، فيما يعتبر الجامعيون أن من حقهم البحث عن فرص عمل بالخارج طالما أنها تحفظ كرامتهم العلمية والمادية وتوفر مناخا أفضل يقدر مستوى كفاءتهم.