العلاقة بين السبسي والغنوشي تلقي بظلالها على الحالة الدينية، وتبين أن شد الحبل سيطول بين الصديقين اللدودين.
قيّم تقرير بحثي أكاديمي صادر عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” المشهد الديني في تونس بعد اندلاع ثورة يناير، خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2015.
واعتمد التقرير على العمل البحثي الاستقصائي الميداني المباشر وغير المباشر، من خلال متابعة الأحداث والتصريحات والمواقف والممارسات والظّواهر في مصادر الإخبار بها على صفحات الصحف اليومية، والمواقع الإلكترونية والمدوّنات ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتناول التقرير كل ما يهمّ التّنظيمَ المؤسّساتي الهيكلي والقانوني للشأن الديني في تونس، والممارسات الدّينية الإسلامية والمسيحية واليهودية. كما اهتم بتدريس الدين والتدين، والجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية ذات الصلة، وصولا إلى ما في المجال الديني من تنظيماتٍ سياسيّة ونقابيّة وجمعياتية.
وخصص التقرير قسمه الأول لدراسة المؤسسات الدينية في البلاد والتي تجسدها وزارة الشؤون الدينية باعتبارها الجهة الرسمية المُخولة لإدارة الشأن الديني في تونس، بعد أن ورثت إدارة الشعائر الدينية.
وكشف أن بعض المشاريع الإصلاحية انحسرت في عمل مسؤولي الوزارة المتعاقبين على تجاوز ما عَدُّوه صنوفا من التهميش عانت منها المؤسسة منذ تأسيسها. كما عانت من محدودية المهام وضيق الآفاق وغياب منهجية عمل واضحة وتداخل في الأدوار وبطء في الإنجاز.
وليست الأوضاع الإدارية للوعاظ المحليين بأفضل حالا، وذلك لافتقادهم للإمكانيات اللوجستية. ويظهر التقرير أن صورة فضاءات العبادة الإسلامية في تونس بدت منشطرة على نفسها في خضم تباينات اجتماعية خلال فترة انتقال صعبة، من إدارة سلطوية تسلّطية وقمعية للمؤسسة المسجدية في ما قبل 14 يناير 2011، إلى إدارة مدنية حرّة وديمقراطيّة وتشاركيّة.
وإزاء هذا التشخيص يقف التقرير على ما يسمّيه خطط إصلاح وتطوير انطلقت عام 2012، وقوامها تقسيم أعوان الوزارة إلى فرق تحت إشراف خبير جامعي متخصّص في علوم التصرّف للعمل على محاور أهمّها الإصلاح الهيكلي للوزارة وتأهيل الإطارات الدينية وبناء المؤسسات، وهو ما تفاعل معه كل الوزراء المتعاقبين في سنوات 2013 و2014 و2015، على الرغم من اختلاف الوزراء في مقارباتهم السياسية ومرجعياتهم الأيديولوجية وانتماءاتهم الحزبية.
وسلط التقرير الضوء على المؤسّسة الزيتونيّة في تونس. وبعد استعراض سريع لما شهدته المؤسّسة منذ أربعينات القرن التاسع عشر، يتوقف عند الجدل الذي أحدثه مزجها بين العلوم الدينيّة بمختلف تفرّعاتها وتنوّعاتها، والعلوم الاجتماعيّة وعلم الأديان وعلم النفس والفلسفة الغربيّة والفلسفة الإسلاميّة، في محاولة للكشف عن أطوار سياسات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي الدينية، وواحد من أوجه صراعه مع حركة النهضة الإسلامية.
ويذهب التدقيق، الذي اضطلعت به الدراسة في مُجمل المسارات البحثية داخل المؤسسات الدينية الرسمية أو خارجها، إلى أنه كانت هناك محاولات لإخضاع الجدل المجتمعي حول المسألة الدينية وإشكالياتها إلى بحث علمي أكاديمي، غير أن تلك المحاولات لا تزال ضعيفة ومحتشمة بسبب خضوعها لسجال أيديولوجي.
وتطرقت الدراسة إلى مواقف الأحزاب المدنية أو العلمانية في تونس في ما بعد ثورة يناير إزاء المؤسسة الدينية وإدارة شؤونها، عبر اعتماد منهج علم الاجتماع التاريخي.
واعتبرت أن المحاولات التي يتبعها حزب نداء تونس (علماني) لجرّ حركة النهضة (إسلامية) نحو تغيير خطابها، والانخراط في ما يبدو مراجعة فكرية عميقة لمقولات السلفية- الإخوانية، بسبب ما يجمع بينهما من تحالف على الحكم وتنافس شرس على السلطة. إضافة إلى العلاقة البراغماتية بين الرئيس التونسي الباجي القائد السبسي مؤسس حزب النداء وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، تلقي بظلالها على الحالة الدينية بالبلاد.
وتبين أن “شدّ الحبل سيطول بين الصديقين اللدودين مثلما تجسد في إدارة معركة المساجد”. ويلفت التقرير إلى أن علاقة الأحزاب المدنية التونسية مع الدين وقعت تحت تأثير موروث إصلاحي مستنير، حيث تشبعت النخبة السياسيّة بثقافة وطنية عصرية وعلمانية.
لكن رغم انقسام المعارضة المدنيّة لدكتاتورية بن علي بين مجموعة من الأحزاب والشخصيات ذات الأيديولوجيات الماركسية والحداثية، بين تأييدها لردع بن علي للممارسات والمؤسسات الدينية وتجييره للخطاب الديني، وبين أحزاب مدنية أخرى رفضت هذه الممارسات ومنطلقاتها سواء الأيديولوجية أم المصلحية، يقف التقرير على ما أحدثته الثورة التونسية من خلط للأوراق وفتح الباب لاكتساح قوى إسلامية مختلفة ولا سيما المتشددة والمحافظة.
وحسب الدراسة لم تنتج انتصارات التيار الحداثوي في انتزاع تنازلات من التيار الإسلاموي من خلال ما يكفله دستور 2014 من حماية للحريات خاصة الدينية، في إنهاء التجاذبات الأيديولوجية، حيث انتقلت من مجال المبادئ الدستورية إلى تكريس عملي لها من خلال آليات تدبير الشؤون الدينية.
وخلص التقرير إلى أن المشهد الديني بتونس بمثابة حقل ديني بالمعنى العلمي الاجتماعي للفظة، وهو مشهد لا يفتأ يبني ثم يهدم، لكن في النهاية يعيد إنتاج مكوناته من جديد.
محمد الحمامصي
كاتب مصري