في هوامش الحدث خلاف حول الأجور وتباين حول أشكال التفاوض وما يترتب عنها من التزامات، وفي متن الإضراب، خلاف عميق مع حكومة استدارت يمينا، واختارت الاصطفاف النفعي مع حركة النهضة.
الإضراب العام في الوظيفة العمومية الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، الخميس، لا يعدّ حركة احتجاجية ذات هوية اقتصادية فقط، بل هو احتجاج سياسي بكل ما تعنيه الكلمة من تداخل. وهذا المـلمـح السياسي انطلق من الدواعي التي قدمتها المنظمة النقابية لتوفير وجاهة الفعل، وتبلور أيضا في المواقف المتخذة منه، رفضا أو مساندة.
في الخطوات الأخيرة التي تسارعت في الأيام القليلة الماضية، أعلن نورالدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، الثلاثاء، أن “اللقاء الذي جمعه برئيس الحكومة يوسف الشاهد، لم يطرح حلولا وأغلق باب التفاوض”. الاتحاد، الذي يقول إنه “يخوض المعارك على أكثر من جبهة”، يصرّ على أن المسألة الحقيقية تتجاوز الخلاف حول الزيادة في أجور الوظيفة العمومية، بل تتعداها إلى السجال الحاد مع الحكومة حول الخيارات الاقتصادية، وبالتالي حول ما تعتبره المنظمة النقابية “ذودا عن سيادة القرار الوطني وتحريره من التبعية والتعليمات الأجنبية”.
العلاقة بين الاتحاد والحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ ثورة 2011، مرت بفصول كثيرة، كان خلالها الاتحاد وفيا لخياراته، وإن عُدّت راديكالية أحيانا ورصينة أحيانا أخرى، حسب ما تقتضيه المرحلة السياسية في البلاد. الاتحاد الذي رعى الحوار الوطني حين انسدت السبل السياسية بالفاعلين السياسيين، واستحق الإشادات الوطنية والدولية باعتباره الخيمة التي استظلت الأحزاب بفيئها، كان أيضا “واضع العصا في عجلة التنمية والاقتصاد” حسب قراءات أخرى اقتضتها مرحلة سياسية أخرى.
في الأسباب الداعية إلى الإضراب حسب الرؤية النقابية، ومن يسندها، أكثر من طبقة. هي أسباب مباشرة متصلة بتعطل لغة الكلام في ما يتعلق بأجور الوظيفة العمومية. تعطل عده الاتحاد بمثابة “تملّص الحكومة من التزاماتها وتخييرها ضرب الحوار الاجتماعي”، وهي أيضا أسباب أعمق تحيل إلى “الخيارات السياسية اللاشعبية واللاوطنية للحكومة وللائتلاف الداعم لها من تعميق الأزمة الاجتماعية”، وهو ما يحيل أيضا إلى التصادم القديم الدفين بين الاتحاد والحكومة، وكل الحكومات، حول الخيارات الاقتصادية ومناويل التنمية، تلك التي يواظب الاتحاد على نقدها والدعوة إلى تغييرها تبعا لأن فشلها يمكن استخراجه من الوضع الاقتصادي الذي يزداد ترديا باطراد، بل يمكن التقاطه من اندلاع الثورة على نظام سابق كان بدوره يطبّق التوجهات الاقتصادية نفسها.
تضطرب العلاقة بين الاتحاد، أكبر قوة في البلاد كما يتغنى النقابيون، والحكومة، ويتحول الاتحاد من شريك فاعل إلى خصم سياسي لدود، ولاضطراب العلاقة أسباب أخرى، سياسية بالضرورة، وإن كانت أسلحتها اقتصادية. وفي “تسييس” الخلاف بين الطرفين أصداء كثيرة يمكن تلمسها في خطاب الاتحاد والمساندين لمواقفه الغاضبة، كما في الرافضين للاحتجاج النقابي بتعلاّت شتّى. يبرر “المضربون” إضرابهم بأن الحكومة مرتهنة لفاعل أجنبي معلوم، وأنها تهرول نحو بيع المؤسسات والقطاعات العمومية تطبيقا لتعليمات المانح الدولي، وتنتقد الأطراف الحكومية إضراب الاتحاد بتعلّة التوقيت السياسي وأنه يسيّس الفعل النقابي ويسير به نحو الإضرار بمصالح البلاد وتوجيه الضربات للحكومة.
جدير بالتذكير بأن للعلاقة بين الاتحاد والسلطة في تونس، قصة طويلة مشتقة من التاريخ، تستذكرها أيضا وجهات النظر المتقابلة، للمفارقة. فهو حليف السلطة والنظام السابق، عند معارضيه المؤقتين، لأنه لا يستغرب أن يتحول هؤلاء إلى معسكر آخر بسرعة، إن تراجع الاتحاد مثلا عن الإضراب، ليصبح “الفاعل المنتصر للمصلحة الوطنية الذي استجاب لصوت العقل ورجح مصلحة البلاد”، وهذا ما قيل سابقا ولا يستبعد أن يقال مستقبلا.
في هوامش الحدث خلاف حول الأجور وتباين حول أشكال التفاوض وما يترتب عنها من التزامات، وفي متن الإضراب، خلاف عميق مع حكومة استدارت يمينا، واختارت الاصطفاف النفعي مع حركة النهضة، وخيّرت الالتزام بنسخة محيّنة من منوال تنمية قديم وعقيم، قامت الصناديق المالية الدولية بتحيين سطوره، إنقاذا لوضع تسبب به قصر نظر الحكومات المتعاقبة، في ما يشبع الحلقة المفرغة من الدوران بين المشاكل القديمة والحلول القديمة.
كان المتن مضمرا لكن تسارعت نبضات إعلانه حتى أصبح في الأيام معلنا واضحا. الاتحاد اتخذ موقفا واضحا منذ أشهر من حكومة يوسف الشاهد، وطالب برحيلها كاملة، لأنها تعبير عن الأزمة بل حلقة من حلقات أسبابها. حكومة يوسف الشاهد اختارت أن “تتجمّل” بتحوير جزئي، قالت إن دواعيه اقتصادية، لكن التحوير لم يطل أيا من وزراء الشأن الاقتصادي ولم يطرح أيّ برنامج اقتصادي يرمم الوضع المرتدي. وبين دواعي التحوير الوزاري وإنجازه، اختار ربان الحكومة أن يراهن على سطوة النهضة في البرلمان وفي المشهد عموما، فاستحق دعمها وإسنادها. فكان أن أطبقت النهضة على الحكومة، لا فقط بزيادة تمثيلها على مستوى الوزارات، بل بضمان رئيس الحكومة الهارب من حزبه، تحت جلبابها.
تلمس أضلع المشهد التونسي الراهن، والإضراب العام اختصار دقيق لتشعبه، يسمح بالقول انطلاقا مما ساد السياسية التونسية مؤخرا، إن الموقف الأخير من الإضراب وحوله، ليس موقفا يخصّ فقط دواعيه أو تبريراته أو توقيته، أو حتى رفضا لراديكالية المنظمة النقابية، إنما يتجاوز ذلك ليطال الحالة السياسية الراهنة بكل تفاصيلها، وصولا إلى النظام السياسي الأعرج المعتمد حاليا.
في الحالات السياسية السوية، يكون الانتخاب تتويجا ديمقراطيا لمناخ سياسي متكامل، ويؤدي، أي الانتخاب إلى اختيار السلطات التي تتصدى لتنفيذ خيارات الشعب التي عبّر عنها في الصناديق. في الحالة التونسية لم يكن ذلك كذلك. الانتخاب حصل في مناخ سياسي مشوب بالضبابية، ما أدى إلى أن المنتخب أصبح في حلّ من التزاماته مع من انتخبوه، فأصبح عاديا أن نرى عضو مجلس شعب منتخب من حزب معين يتحول بسرعة إلى حزب آخر يناقضه فكرا ورؤى، وأصبح عاديا أن نرى حزبا يتحالف مع حزب ثان، بعد أن بنى كل شعاراته الانتخابية على تناقضه السياسي والأيديولوجي معه. هذا الوضع أفرز نتائج غير ديمقراطية (السياحة الحزبية والتحالفات الانتهازية وغيرها من المظاهر) لفعل ديمقراطي هو الانتخاب.
هذه الأخاديد الغائرة التي تسم المشهد التونسي الراهن، حولت الفعل السياسي والحزبي إلى فعل يتقصد المناصب ولا يهدف إلى خدمة البلاد، ويولي الأهمية للاستحقاقات الانتخابية أكثر من اهتمامه بالاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا الكسل في تمثل الحلول ساهم في تسارع نسق الأزمة، وأتاح للجهات الدولية المانحة أن تتدخل لفرض برامجها، ولم يُسمح للحكومات بغير الاستجابة. وهنا همزة الوصل بين الإضراب وعمق الأزمة.
تتردد في الأيام التونسية الأخيرة مقولة مفادها أن الإضراب العام هو بمثابة “آخر الطب الكي”، وأن اتحاد الشغل هو آخر قلعة يمكن أن تقف في وجه التقدم اليميني الإسلامي الذي لا يبقي ولا يذر. وبصرف النظر عن وجاهة القول من عدمها، فإن الإضراب هو احتجاج يسعى لإعادة السلطة إلى رشدها، ولعل الحملات الناقدة للإضراب المشيطنة للاتحاد التي ازداد منسوبها مؤخرا، دليل على أن المعركة، ليست معركة أجور بقدر ما هي محاولة لإجبار الحكومة على فرك أعينها والنظر لواقع البلاد في حقيقته، لا وفق ما يقتضيه السعي الحثيث للسيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها.
عبدالجليل معالي / كاتب وصحافي تونسي