نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس أثمرت نوعا جديدا من الإسلاميين.
لن يكون مُنصفا أن نقول إن الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد يمثّل التيارات الإسلامية، وسيكون مُجحفا تصنيفه في أي من التيارات السياسية، لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى وجود محاولات سياسية حثيثة لتوظيفه واستغلال وصوله على سدة الرئاسة. هذا التصوّر عزز من المخاوف التونسية في ما يتصل بمستقبل العلاقة بين السلطات، وفي ما يتعلق بمستقبل البلاد إن أطبق الإسلاميون على السلطة التشريعية والتنفيذية.
ما أوحت به نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس، مع ما ظهر من نزوع شعبي تونسي لمعاقبة الطبقة السياسية بأكملها، عوامل تضافرت لتفتح الباب لتسرّب ضرب نوع جديد من الإسلاميين، أطلوا من خلال شعارات الثورة ومحاربة الفساد وسيادة البلاد، وفي خلفية لائحة المطالب والشعارات استرجاع لهوية البلاد وضرب للتنوع والحريات. كان انتخاب قيس سعيّد رئيسا جديدا لتونس فرصة قدر ائتلاف الكرامة وحزب الرحمة وجناح كبير من الإسلاميين المنتمين للنهضة أنها لحظة مناسبة للامتطاء، وإعادة ترويج شعارات إسلامية محيّنة ومطعمة بإشارات اجتماعية واقتصادية مشتقة من قاموس ثورة يناير 2011.
المناخات السياسية التي سادت قبل الانتخابات ذكرت التونسيين بالاستقطاب الحاد سنوات 2012 و2013، حين ارتفعت أصوات الهوية والذود عن الإسلام وربط البلاد بأصولها العربية الإسلامية. ففي الأشهر التي سبقت الاستحقاقيْن الانتخابيين عاد “قاموس الثورة” إلى الاشتغال لا بمعنى الوفاء للمضامين الحقيقية التي طرحت في شهريْ ديسمبر 2010 ويناير 2011، وإنما بمعنى اقتطاعها واختصارها في تشنج شعبوي قوامه شعارات الهوية العربية الإسلامية ومحاربة الفساد واسترجاع السيادة، وغير ذلك من الشعارات التي تُخفى وراءها قسم كبير من الإسلاميين.
توصل ائتلاف الكرامة، مع حزب الرحمة، إلى الحصول على كتل نيابية مهمة، إضافة إلى ما حصلته حركة النهضة من مقاعد، كانت علامات متداخلة تجتمع لتشكّل صورة جديدة في المشهد السياسي التونسي مفادها أن الإسلاميين (بمختلف ألوانهم) بصدد العودة من جديد، واستغلال المنافذ الجديدة التي فتحت لهم عبر أزمة سياسية حددت تغيّر المشهد ومعاقبة الطبقة السياسية، وإن كانت حركة النهضة نفسها قسما أساسيا منها.
على ذلك كان صعود قيس سعيّد إلى سدة الرئاسة فصلا مضافا وظفه هؤلاء في تدعيم “مكاسبهم” السياسية، التي طبعت هذه المرة بعناوين “استئناف” الثورة. وكان كل تصريح يُدلي به قيس سعيّد قبل الانتخابات، يخصّ الهوية أو المساواة أو المثليين يجد رواجا مهولا لدى التيارات الإسلامية، التي رأت في سعيّد “مرشح الثورة”، والمعنى الحقيقي لهذا التوصيف أنها تتكئ عليه في ترويج مقولاتها الأيديولوجية. هذا التداخل بين ما ورد في خطاب سعيّد وبين الالتقاط الإسلامي، لا يعني ضرورة أن قيس سعيّد يمثل التيارات الإسلامية، وإنما هو يمثّل فرصة سياسية سانحة لا تود التيارات الإسلامية تفويتها أو تبديد ما يمكن أن تمنحه لهم.
الواضح مما أوحت به نتائج الانتخابات التشريعية، هو البرلمان التونسي القادم تطغى عليه التوجهات اليمينية، وحتى إن تراجعت حركة النهضة عن الحجم الذي كانت تمثّله في مجلس النواب، إلا أنها مازالت تتصدر الكتل النيابية، والمهم في هذا الباب هو أن احتكار الحركة لتمثيل الإسلاميين انتهى، ولم تعد النهضة الممثل الوحيد للتيارات الإسلامية، بدخول تيارات وأسماء جديدة تقع على يمينها بمعنى أنها تقدّم خطابا أكثر تطرّفا وراديكالية من النهضة، والحديث هنا عن ائتلاف الكرامة (حدد برنامجه على أساس الإيمان بالثورة والإيمان بالهوية العربية الإسلامية والإيمان بسيادة تونس على قرارها وثرواتها) وعن حزب الرحمة ذي التوجهات السلفية، في انتظار اتضاح الرؤية بالنسبة للعدد الكبير من المستقلين، وهو ما يعني حتما ارتفاع النواب أصحاب الميول الإسلامية.
ارتفاع في التمثيل الإسلامي اليميني تزامنَ مع تراجع ملحوظ للعائلات الوسطية والدستورية واليسارية، وهو ما يقلل من خطورة “خسارة” حركة النهضة للكثير من مقاعدها مقارنة بالعام 2014.
هل يمثّل صعود قيس سعيّد لحظة مشتهاة للإسلاميين؟ نعم. وإن كان هذا لا يعني، بالضرورة، أن سعيّد صاحب هوى إسلامي، ودون أن يعني أيضا أنه مرشحهم المثالي، بدليل أن الإسلاميين تقدّموا في الدور الأول للانتخابات الرئاسية بالعديد من المرشحين (عبدالفتاح مورو وحمادي الجبالي وسيف الدين مخلوف الناطق الرسمي باسم ائتلاف الكرامة)، إلا أنه تحوّل إلى رهان لمختلف الحركات الإسلامية، لسببين على الأقل. الأول خسارة كل المرشحين الإسلاميين فرصة الترشح للدور الثاني. والثاني ما وفّره قيس سعيّد نفسه من إشارات سياسية تلقى هوى كبيرا عند الإسلاميين.
سيحاول الإسلاميون امتطاء اللحظة السياسية الراهنة، المكوّنة مما أفرجت عنه الانتخابات التشريعية والرئاسية، لمحاولة بلورة مشهد سياسي تتكاتف فيه القوى الإسلامية في البرلمان، مع رئيس راهنوا عليه لأنهم يلتقون معه في الحد الأدنى السياسي، إضافة إلى إمكانية كبيرة لاصطفاء رئيس حكومة من تلك العائلة، إذا لم تجر رياح سياسية معاكسة.
مسؤولية خطيرة تقع على قيس سعيّد راهنا، وتقوم على وجوب أن يحاول فك الارتباط بالإسلاميين، لأن هذا الارتباط لن يلقي بكاهله فقط على مستقبل البلاد، وإنما أيضا على علاقات تونس مع جوارها ومع العالم.
الموقع الرسمي للإخوان المسلمين نشر تقريرا في 7 أكتوبر، تضمن ما يشبه “النصيحة” لحركة النهضة مفادها أنه “يمكن للنهضة أن تصبح ذات وزن سياسي ثقيل لو تحالفت مع إسلاميي ائتلاف الكرامة الذي يرأسه سيف الدين مخلوف، ومع المستقلين، وتتقرب من حزب التيار الديمقراطي لتصبح قادرة على تسيير مشاورات تشكيل الحكومة”. ما يعني أن الرهان على إعادة إنتاج الهيمنة الإسلامية على المشهد السياسي التونسي جارية على قدم وساق، بل وتحظى بمتابعة دقيقة من الإسلاميين خارج تونس.
ويلتقي هذا مع تهنئة حركة حماس الإسلامية، قيس سعيّد بفوزه مشيدة بـ”التجربة الديمقراطية الرائعة التي شكلت أملا ونموذجا لكل أبناء الأمة، ومثلت انتقالا كبيرا بتونس نحو مزيد من الاستقرار والازدهار بإذن الله”.
النسخة المحينة من التيارات الإسلامية في تونس، استنبطت حيلة تطعيم الخطاب السياسي بمصطلحات من خارج القاموس الإسلامي، من قبيل استئناف الثورة ومحاربة الفساد واسترجاع السيادة وتأميم الثروات الطبيعية فضلا عن العديد من المعاني الاقتصادية التي تم اختلاسها من شعارات يسارية واجتماعية. تحيين رفع من أسهم تيارات مثل ائتلاف الكرامة والعديد من المستقلين، وكان للتصويت العقابي دور حاسم في رفع اسمهم.
تقع على الرئيس المنتخب الجديد مسؤولية توضيح موقفه وعلاقاته واصطفافاته. فمثلما بإمكانه أن يُحدث نوعا من التوازن ويواجه العقبات السياسية، يمكنه أيضا أن ينخرط في الموجة الجديدة ويحظى بدعم سياسي في البرلمان وفي خارجه.
عبدالجليل معالي
كاتب وصحافي تونسي