النهضة تنجح في ضم يساريين إلى صفها بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
دفعت القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، حفاظا على الدولة كما أوضح، حركة النهضة الإسلامية التي وجدت نفسها بعيدة عن دوائر الحكم إلى البحث عن مبررات لرفض تلك الإجراءات ما جعلها تصفها بالانقلاب الذي لوحت بالتصدي له. لكنّ اللافت هو انضمام تيارات يسارية معروفة بعدائها للإسلاميين ودعوتها إلى اتخاذ إجراءات شبيهة إلى جبهة النهضة من خلال مهاجمة الرئيس سعيد واعتبار أنه انقلب على المسار الانتقالي الذي يعرف أصلا تعثرا تجلى في أزمة سياسية ودستورية حادة كادت تعصف بالبلاد.
تونس – لا يزال صدى القرارات التي أصدرها الرئيس التونسي قيس سعيد استجابة إلى المحتجين الذين طالبوا بوضع حد للمنظومة الحاكمة في البلاد يتردد حيث تستمر ردود الفعل مخلفة معها سيناريوهات مختلفة لمسار الأزمة السياسية والدستورية الحادة التي عرفتها البلاد.
لكن أيضاً تتواصل تلك الردود في إثارة انقسامات داخل الأحزاب السياسية، وتكشف عن تناقضات بعضها البعض وحتى نجاح حركة النهضة الإسلامية في التخفي وراء شعارات الديمقراطية وغيرها من أجل استمالة تلك الأحزاب.
وفاجأت بعض الأحزاب اليسارية التي لطالما هاجمت الطبقة السياسية الحاكمة في تونس المتابعين بإصدار مواقف تُعارض القرارات التي اتخذها الرئيس سعيد والتي كانت تستهدف الحفاظ على الدولة والأمن الوطني.
وفي سياق هذه المواقف أكد حزب العمال أن الشعب التونسي يحتاج إلى تغيير لكن الإجراءات التي أقرها سعيد تعكس سعيا منه لاحتكار كل السلطات (التنفيذية والقضائية والتشريعية).
واستحضر الحزب الذي يُجاهر بمعاداة حركة النهضة الإسلامية التي تحكم البلاد منذ 14 جانفي 2011 مفردات الانقلاب التي استعملتها النهضة لتوصيف تلك الإجراءات وهو ما يعني وفقا لمتابعين سيرا على خطى الحركة أو تحالفا غير معلن معها.
وكانت حركة النهضة قد قادت حملة مكثفة خلال الآونة الأخيرة لتأليب الرأي العام ضد الرئيس سعيد وبقية خصومها واتهامهم بأنهم يسعون للعودة إلى الدكتاتورية في محاولة لاستقطاب الأحزاب اليسارية والتي تحمل لواء الدفاع عن مدنية الدولة وكذلك المنظمات الحقوقية.
طوق النجاة للإسلاميين
أعاد بيان حزب العمال التونسي برئاسة حمة الهمامي، الذي فقد شعبيته خلال السنوات الأخيرة، إلى الأذهان المخاوف من تحالف القوى اليسارية في البلاد مع الإسلاميين في مواجهة الرئيس قيس سعيد من خلال الترويج بأن القرارات التي اتخذها تمس من الديمقراطية وحقوق الإنسان.
واعتبر الحزب أنّ “ما أقدم عليه رئيس الدولة وقد كان متوقعا انطلاقا من عدة مؤشرات لعل أبرزها إقحام المؤسسة العسكرية في صراع أجنحة المنظومة، هو من الناحية القانونية خرق واضح للدستور ولأحكام الفصل 80 الذي اعتمده”.
وأشار إلى أنّه ”من الناحية السياسية فإنّ الإجراءات استثنائية معادية للديمقراطية تجسّم مسعى قيس سعيد منذ مدة إلى احتكار كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بين يديه وتدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي المطلق من جديد”.
ورأى حزب العمال ”أنّ هذا المنعرج سيفتح على مرحلة جديدة ستزيد من خطورة الأوضاع المتأزمة التي تعاني منها البلاد على جميع الأصعدة بل قد تؤدي إلى سقوطها في دوامة العنف والاقتتال والإرهاب”.
ويرى مراقبون أن التيارات اليسارية في تونس باتت تعيش انقساما حادا يعود إلى تراكمات تاريخية هي بصدد تحديد ملامح علاقتها مع بقية الأطياف السياسية وخاصة الإسلام السياسي الذي ينجح في حشد دعم تلك التيارات من خلال ترهيبها من عودة الاستبداد والدكتاتورية، بما يمثل بمثابة طوق النجاة للإسلاميين.
وقال المحلل السياسي والمؤرخ التونسي عبدالجليل بوقرة إن “ما يجمع التيارات اليسارية في تونس حاليا هو اقترابها من الإسلام السياسي والتيارات الإخوانية”.
وأضاف بوقرة أن “اليسار التونسي تعرض منذ أواسط سبعينات القرن الماضي إلى أزمة هيكلية حادّة أدّت إلى تشرذمه وتذرّره، وأصبح يعبّر عن نفسه من خلال تيارين رئيسيين: تيّار سياسي اشتراكي موزّع بين الأحزاب والنقابات العمالية والطلابية، وتيار حقوقي موزّع بين جمعيّات مختلفة كرابطة الدفاع عن حقوق الإنسان والنساء الديمقراطيات”، موضحا “رغم توزّع المسارات واختلافها فإنّ ما بقي يجمع بين أغلب هذه التيارات، مع استثناءات قليلة، هو الاقتراب من تيّارات الإسلام السياسي وخاصّة الإخواني”.
وتابع أن “التيار السياسي الاشتراكي وخاصّة حزب العمال في تونس تأثّر بما توصّل إليه الزعيم الماركسي الألباني أنور خوجة من اعتبار الحركات الإسلامية جزء من القوى الوطنية المناهضة للامبريالية، فكان الدّفاع عن حركات حماس والجهاد الإسلاميتين الفلسطينيتين”.
ولم يكتف حزب العمال بالبيان الذي نشره حيث ظهر زعيمه حمة الهمامي على شبكة الجزيرة القطرية وهو يهاجم الرئيس قيس سعيد معتبرا أنه “قام بانقلاب على الدستور” وهي نفس الذريعة التي اتخذتها النهضة لمعارضة القرارات التي أصدرها سعيد.
وقال الهمامي الذي أثار ظهوره في الجزيرة جدلا واسعا إن “هدف قيس سعيد هو الحكم الفردي المطلق ونظافة يديه (أي عدم تعلق شبهات فساد به) ليس مزية”.
والتقارب بين اليساريين أو جزء منهم مع الإسلاميين ليس وليد اللحظة في تونس حيث اشترك هؤلاء في خوض صراع مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في سياق ما أُطلق عليه بهيئة 18 أكتوبر التي أنشئت في 2005 بهدف “مقارعة الاستبداد”.
وانخرطت آنذاك وجوه يسارية على غرار حمة الهمامي في إضراب جوع مع الإسلاميين والعروبيين أيضا قبل أن يتم الإعلان عن تأسيس الهيئة المناهضة للاستبداد.
ويدفع التوجس المبالغ فيه أحيانا من عودة الاستبداد اليسار التونسي إلى التخندق مع النهضة بما يحمله من تداعيات على خزانه الانتخابي الذي تهاوى طوال السنوات الأخيرة حتى أنه لم ينجح في حصد أي مقعد في البرلمان في الانتخابات الأخيرة التي جرت في 2019.
ويرى مراقبون أن التيار اليساري، الذي عُرف بنضاله من أجل الحريات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، قد سقط في فخ القطع مع التيار التحديثي بمد يده للنهضة وبقية التيارات الإسلامية.
وشدد عبدالجليل بوقرة على أن “اليسار تعمد في أكثر من مرة الاقتراب من الإسلاميين في تونس وتحالف مع حركة النهضة الإخوانية التونسية منذ عهد حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في ما سمّي بهيئة 18 أكتوبر”.
وأردف أن “اليسار قطع بذلك صلته بالتيّار التحديثي وأصبح تابعا للتيار المحافظ التقليدي، مع استثناء قسم هام من التيّار الوطني الديمقراطي الذي ظلّ على معارضته الجوهرية للتيّار الإسلامي ومتمسّكا بالتقاليد الفكرية العلمانية والتحديثية لليسار التونسي”.
وأكد أنه “بالنسبة إلى اليساريين الحقوقيين فهم جزء من المنظومة الحقوقية الغربية المدافعة عن الإسلام السياسي في كلّ العالم الإسلامي بدعوى أنّ هذه البلدان محافظة ولا يمكن أن يحكمها سوى ما يسمّى بالإسلاميين المعتدلين لقطع الطّريق على الإسلاميين الراديكاليين مثل القاعدة وداعش حسب اعتقادهم”.
وأمام الارتياح الشعبي الكبير لقرارات الرئيس قيس سعيد التي شملت تجميد اختصاصات وصلاحيات مجلس النواب (البرلمان) وإقالة الحكومة برئاسة هشام المشيشي تدفع العديد من التيارات القومية واليسارية نحو إنهاء حالة الانقسام وضمان الانحياز إلى إرادة التونسيين بدل الاصطفاف مع النهضة.
تدارك الموقف
وقالت أوساط سياسية إنها ستوجه نداءات لتوحيد العائلة اليسارية بما يضمن تأييد خيارات التونسيين ضد المنظومة التي كان يقودها الإسلاميون من أجل تحقيق الإصلاح المنشود وهو ما يمثل محاولة من أجل تدارك الموقف الذي وجدت فيه بعض الأحزاب اليسارية نفسها فيه.
والعائلة اليسارية في تونس تواجه حالة من الانقسام منذ تفكك الجبهة الشعبية التي كانت تضم أحزابا يسارية وقومية على غرار حزب العمال والوطنيين الديمقراطيين الموحد (الوطد) والتيار الشعبي وغيره من الأحزاب.
واعتبر الناطق الرسمي باسم حزب التيار الشعبي محسن النابتي أن “أداة الفوضى والتخريب في العالم العربي والمنطقة وتونس واضحة هي حركة الإخوان المسلمين”.
وقال النابتي في اتصال هاتفي مع “العرب”، “ندعو كل القوى اليسارية إلى الالتفاف حول مطالب الشعب والصمود بوجه ما تقوم به المنظومة بقيادة الإخوان المسلمين حتى إنجاح حراك 25 يوليو، على كل القوى الوطنية وليست اليسارية فقط أن تلتحم بالتونسيين” في إشارة إلى التاريخ الذي اتخذ فيه الرئيس سعيد قراراته بشأن الأزمة السياسية.
وتابع “نحن لا نتفق مع بقية الأطراف مهما كانت انتماءاتها يسارية أو غيرها بشأن الديمقراطية لأنه عندما تُدمر الأوطان بسبب أجندات الإخوان المسلمين وقتها لا حديث عن ديمقراطية ولا غيرها”.
واستدرك “لكن مع ذلك أدعو هذه الأطراف اليسارية وغيرها من الأطراف إلى الالتحام مع الشعب من أجل إنجاح حراك 25 يوليو الذي أعاد الأمل في بناء تونس التي نحلم بها”.
صغير الحيدري
صحافي تونس