سيكون الأسبوع الحالي، الذي ينطلق غدا الاثنين، حاسما في تحديد مصير رئيس الحكومة الحالي، الحبيب الصيد، حيث ستمر الأحزاب والمنظمات، المشاركة في مفاوضات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، التي دعا لها الرئيس السبسي، من الحوار حول أولويات الحكومة القادمة وهيكلتها، إلى اختيار الشخصية التي سوف تترأسها، وسط ما يشبه تباينات وغموض كبير في المواقف.
مصير الصيد بيد الرئيس السبسي
في هذا الإطار، نشير الى وجود موقفين من مسألة التجديد للصيد لترأس الحكومة المقبلة، موقف أول لا يرى مانعا في الإبقاء عليه، وهو ما عبر عنه كل من الأمين العام لاتحاد الشغل، حسين العباسي، ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي.
في المقابل، هناك موقف ثان، وهو موقف القصر الرئاسي، الذي ما يزال غامضا، غموض عبر عنه الرئيس قائد السبسي، عندما خير عدم الحسم في مصير الصيد، وإن كان منطوق مبادرته، قد فهم منها كما لو أنه إشارة صريحة إلى وجود فشل حكومي، وهو ما فهمه البعض على أنه توجه منه نحو الذهاب لاختيار فريق حكومي جديد، برئيس حكومة جديد يقود المرحلة الجديدة، بعد عجز الحكومة الحالية عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، لإعادة استئناف نسق الاستثمار، وكسب ثقة المؤسسات المالية العالية، وثقة شركاء تونس وخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي يحتل لوحده 80% من التبادل التجاري مع تونس.
نشير الى أن المبادرة الرئاسية، المتمثلة في الدعوة لحكومة وحدة وطنية، رأى فيها جل المراقبين، أنها ترتقي إلى إعلان سحب ثقة من رئيس الحكومة الحالي، الحبيب الصيد، و بالتالي رفع للغطاء السياسي الداعم له من قبل الرئيس وحزبه، وهو ما يفسر مطالبة أنصار هذا التوجه، خاصة "نداء تونس"، الصيد بتقديم استقالته، أو سيتم اللجوء لسحب الثقة منه، مثلما صرح بذلك قادة الحزب.
حرب باردة بين قرطاج والقصبة
ولعل هذا ما جعل تصريحات بعض مستشاري القصر الرئاسي، وقادة حزب "نداء تونس"، يرون في رفض الصيد تقديم استقالته، والتلويح بحسم مصيره ومصير حكومته في البرلمان، بمثابة رفض لمبادرة الرئيس، برغم تصريحاته الإعلامية الداعمة لها.
في المقابل اختار الرئيس التريث، وعدم المطالبة في العلن باستقالة الحكومة وتحديدا رئيسها، لتعيش البلاد على ما يشبه "لي ذراع"، أو "حرب باردة" بين "القصبة" (مقر الحكومة) و"قرطاج" (مقر الرئاسة)، وليقتصر التواصل بينهما، على لقاء روتيني بين الرجلين صبيحة كل يوم اثنين، وهو وضع من المرجح أن يتم الحسم فيه نهاية الأسبوع الجاري، وفق ما أشارت إليه روزنامة المبادرة الرئاسية، التي نصت على اختيار المرشح لرئاسة الحكومة قبل يوم 29 يونيو الجاري.
خيار الرئيس قائد السبسي، لا يستبعد تجديد الثقة في الصيد، وهو ما صرح به عندما أشار الى أنه مع الإبقاء على الصيد إذا ما حصل إجماع حوله من قبل أطراف الحوار.
على أن الرئيس السبسي يتجه نحو اختيار رئيس حكومة يضمن استمرارية "التواصل" و "الانسجام" بين رأسي السلطة، وهو لا يتناقض والإبقاء على الصيد، الذي أكدت مصادر مقربة منه أنه توصل جيدا بمضمون مبادرة الرئيس السبسي، وبهذا سيكون بقاؤه في القصبة مقترنا بأداء جديد، يقوم على تعميق التشاور مع الرئيس، ليكون أقرب إلى "وزير أول" منه إلى "رئيس حكومة" بكل الصلاحيات الكبيرة التي أعطاها له النظام السياسي الحالي.
يدرك الصيد، وهو الذي يشترك مع قائد السبسي في نفس مدرسة الحكم، أن التباين بين القصبة وقرطاج، وضع –في حالة استمراره - لا يساعد على إدارة شؤون الحكم، خصوصا مع رئيس مثل الباجي قائد السبسي، الذي يستند إلى إرث ثقافة سياسية، ترى أن النظام الرئاسي هو الأصلح والمناسب لتونس، خاصة في ظل مرحلة انتقالية تتسم بوجود استقرار هش، وهو ما يحتم بالضرورة أن يكون رئيس الحكومة في انسجام تام مع ساكن قصر "قرطاج"، وهو موقف أصبح مسنودا من قبل العديد من الأحزاب وأساتذة القانون الدستوري، الذين أشاروا الى أن النظام السياسي الحالي، يشتت مراكز القرار ويساعد على ديمومة حالة اللا استقرار.
توتر العلاقة مع أحزاب الائتلاف
يدرك الحبيب الصيد جيدا، أن رفع "الغطاء الرئاسي"، الداعم له، سيعجل برحيله، خصوصا وأن علاقته مع أحزاب الائتلاف الحكومي –باستثناء النهضة – تعرف منذ أشهر توترا وصل حد المطالبة برحيله.
فهناك خلاف كبير، لا نبالغ في شيء بالقول إنه وصل حد القطيعة، بين رئيس الحكومة الحبيب الصيد، والأحزاب المكونة للتحالف الحكومي، خاصة الحزب الأغلبي ومرشح الصيد للحكومة، ونعني هنا "نداء تونس"، خلافات انطلقت مبكرا حول تعيينات الولاة والمسؤولين المحليين/المعتمدين، وأيضا الوظائف والمناصب الهامة، مثل الشركات والمؤسسات العمومية الكبرى.
هذا الاختلاف، برز للسطح منذ بداية حكومة الصيد، ويفسر بوجود تباين في منهجية إدارة البلاد، بين الصيد وأحزاب الائتلاف الأربعة، حيث تقوم مقاربة رئيس الحكومة، وهو المتشبع بثقافة الدولة والعارف بها عن قرب بحكم التجربة من جهة، والتحرر من الضغوطات الحزبية والفئوية من جهة ثانية، على التمسك بأن إدارة البلاد في مختلف المستويات، وفي مهام ومسؤوليات مثل المحافظ أو إدارة مؤسسات هامة، تفترض توفر خصال أساسية لا يمكن أبدا التنازل عنها، وهو هنا –وهذا ربما مهم جدا- يعتبر نفسه "حارسا" لهذا الاختيار.
في المقابل، تقوم "مقاربة" الأحزاب الحاكمة، على التعاطي مع إسناد هذه "الوظائف السامية" في الدولة، بمنطق "الترضيات" و"الولاء" و"المكافأة"، قصد مزيد تحسين "تموقع" القيادة داخل نسيجها الحزبي.
هذا التباين الجوهري، جعل الأحزاب المشكلة للحكومة – ومنها الحزب الأغلبي – تتعاطى مع حكومة "الصيد"، وفق منطوق ودلالات المثل الشعبي القائل: "داخل في الربح خارج من الخسارة". بمعنى، أنها اختارت مساندة الحكومة "عن بعد"، لتجد لنفسها مخرجا في حالة الفشل (وهذا ما نعيشه اليوم)، لعل هذا السلوك يجد تفسيره، من خلال تملص الأحزاب الأربعة من صفة "الحزب الحاكم"، التي نرى أنها قد تحولت إلى "تهمة"، يتبرأ منها حتى الحزب الذي فوضه الشعب لإدارة البلاد والعباد.
الصيد قاد حكومة معزولة سياسياً وحزبياً
إن "معركة التعيينات"، كشفت على أن الأحزاب المشكلة للحكومة، لم تبد حماسة في مساندة الحكومة الحالية، من ذلك أن "التنسيقية" التي كونتها لدعم ومتابعة عمل الحكومة، جاءت متأخرة جدا، وبعد نقد وجه إلى هذه الأحزاب. التي اتهمت من قبل المتابعين، بأنها تعمدت ترك الحكومة ورئيسها في "عزلة". أي بدون سند حزبي/سياسي وكذلك أيضا السند والحاضنة الشعبية.
هناك إجماع في الساحة السياسية التونسية، على أن الأحزاب الأربعة المشاركة في الائتلاف، كانت مساندتها محتشمة للحكومة، ما يؤكد على وجود أطراف لم تكن منذ البداية متحمسة لا لاختيار شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة ولا للمنهجية والفلسفة التي شكلت على أساسها حكومة الصيد. وربما لم تكن تنظر أصلا بعين الرضى لخيار "التوافق" و"التعايش" الذي كان وراء تشكيل الحكومة، وتحديدا وراء اختيار شخصية مستقلة لرئاستها.
الصيد يتمسك بصلاحياته
ولعل تمسك رئيس الحكومة، برفض تدخل الأحزاب في "التعيينات"، لأنها تدخل في جوهر صلاحياته، عمّق الخلافات بينه وبين الأحزاب، التي اعتبرت أن الذي يحكم تونس هو "حزب الإدارة". في المقابل علمت "العربية.نت" من مصادر مطلعة وعليمة قريبة من رئيس الحكومة الحبيب الصيد، أنه لا يرفض أبدا الاستئناس بآراء ومشورة كل من حوله وخاصة الأحزاب، لكن يرفض أن يفتكوا منه صلاحياته الدستورية. وهو موقف نجده في توافق مع الثقافة السياسية للرجل، التي تعطي الأولوية للعمل المؤسساتي القائم على القانون، أو ما يعرف لدى عامة التونسيين ب"هيبة الدولة"، والتي تفترض أن يكون المسؤول "في مستوى المسؤولية المناطة بعهدته.
وهنا نذكر أن كل وزراء الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ومنهم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، لم يكونوا مجرد موظفين –مثلما حصل مع فترة بن علي- بل أصحاب مشاريع وأصحاب قرار. وهو ما عبر عنه الرئيس قائد السبسي في أكثر من مناسبة عندما أكد رفضه لمشاركته في الحكم والقرار، لأنه يدرك حينها أن القرار سيتحول الى "إمعة". وهو لا يعني أبدا رفض المشورة والاستئناس التي تساعد على أخذ القرار ولا تفتح الباب للقفز على الصلاحيات أو استضعاف المسؤول، وبالتالي استضعاف الدولة، وهنا نفهم المرجعية السياسية والإدارية التي يشتغل في إطارها الحبيب الصيد.
الاتصال السياسي نقطة ضعف الصيد
بالعودة لأداء حكومة الصيد، نلاحظ أن أداء الفريق الحكومي تجاوز فترة "الصدمة" في التعاطي مع الواقع المتحرك الذي تعيش فيه تونس، الى الأخذ بزمام المبادرة، وهو ما برز بالخصوص في الحرب على الإرهاب. لكن، مع ذلك لاحظنا تواصل نقاط ضعف عديدة، هي محل عدم رضى الرئيس السبسي، التي يعتبر أنه كان على الحكومة تجاوزها، خاصة في علاقة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، الذي يفترض أكثر صرامة في استعادة الإنتاج ورفع الإنتاجية. فضلا عن مطالبة المعارضة للحكومة بضرورة مصارحة التونسيين بحقيقة الوضع في البلاد وعدم "شيطنة" الحراك الاجتماعي، وفتح قنوات حوار مع المحتجين والإنصات الى مشاغلهم قبل تخوينهم.
كما انتقد الرئيس السبسي مشيرا إلى أنها لم تكن حاسمة في تطبيق القانون، إضافة الى أنها تعاني من غياب التضامن والتواصل بين وزرائها. فضلا عن وجود ضعف اتصالي كبير، في مرحلة تفترض وجود خطة اتصالية تساعد على إدارة وتصريف شؤون الحكم، فلم يعد من اليسير لأي حكومة في زمن الثورة الاتصالية، أن تبقى "صامتة"، وهو حال حكومة الصيد الحالية.