إن تونس بتاريخها العريق وثقافتها المتنوعة تقف اليوم أمام تحديات كبرى تتعلق بترسيخ قيم الهوية والمواطنة والوطن والوطنية في نفوس أبنائها، هذه القيم التي كانت في الماضي صمام أمان للوحدة والاستقرار باتت اليوم في حاجة إلى إعادة البناء لتعزيزها كأساس لنهضة المجتمع؛ فهل يمكن أن نجعل منها ركائز متينة لدولة مدنية حديثة تستوعب الجميع؟ وكيف يمكن صياغة مشروع وطني يجعلها متجذرة في قلوب التونسيين وعقولهم؟
مقالات ذات صلة:
قيس سعيّد: الإعلام الوطني جبهة لتحرير تونس وبناء مستقبل الحرية والعدل
في ذكرى استشهاد الهادي شاكر: مناضل وطني في سبيل استقلال تونس
الاتحاد الوطني للمرأة التونسية باردو يحتفي بإنجازات المرأة في حفل اختتام السنة التكوينية
في هذا السياق، تبدو الهوية نقطة الانطلاق لأي مشروع وطني، فهي ليست مجرد بطاقة تعريف أو قالب ثابت يصاغ فيه الفرد والمجتمع بل هي عملية ديناميكية متغيرة تتأثر بالسياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية؛ ففي تونس تمتد جذور الهوية إلى آلاف السنين تجمع بين مكونات أمازيغية ورومانية وعربية إسلامية ومتوسطية، وهو ما يمنحها ثراء فريدا لكن هذا الثراء لا يُعد مكسبا ما لم يترجم إلى قوة تعزز الانتماء وتوحد الجهود.
اليوم، وفي ظل الانفتاح الكبير على العالم يواجه التونسيون إشكالية في الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية والتاريخية وسط موجات العولمة التي تميل إلى طمس الخصوصيات لصالح أنماط استهلاكية موحدة، لذا فان حماية الهوية التونسية لا تعني الانغلاق بل تكمن في إعادة الاعتبار لقيمنا الثقافية والاجتماعية وتوظيفها في الإبداع والابتكار، فهي ليست إرثا جامدا يحفظ في الكتب بل هي معيش يومي يتجدد ليلهم الأجيال القادمة.
لكن الهوية وحدها لا تكفي لتكوين علاقة متينة بين الفرد والمجتمع، إذ تأتي المواطنة لتعزز هذا الرابط، وهي الرابط الذي يجمع الفرد بوطنه والتي تمنحه حقوقا مقابل التزامه بواجباته، لكنها في تونس تعاني من ضعف في الإدراك والتطبيق، إذ غالبا ما تفهم على أنها مجرد حق في التعليم والصحة والعمل بينما يغيب عنها البعد الأعمق وهو الشعور بالمسؤولية تجاه الشأن العام، كما ان المواطنة الحقيقية ليست مجرد انتماء إلى دولة بل هي شراكة بين الفرد والمؤسسات،فالمواطن التونسي الذي يدرك أن حقوقه مرتبطة ارتباطا وثيقا بواجباته هو القادر على بناء وطن متماسك، فلا يمكن تحقيق المواطنة في غياب العدالة الاجتماعية والمساواة حيث يجب أن يشعر الجميع مهما كانت ظروفهم الجغرافية أو الاجتماعية أنهم متساوون في الحقوق والفرص.
وإذا كانت المواطنة ترسخ العلاقة بين الفرد والدولة، فإن الوطن هو الوعاء الذي يحتوي الجميع، وهو ليس حدودا جغرافية فقط بل هو فكرة تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، إنه الأمان الذي يشعر به المواطن والكرامة التي تمنحه معنى الانتماء، وفي تونس تتعالى الأصوات أحيانا بشكاوى الإقصاء والتهميش ما يجعل بعض المواطنين يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم، ولكن الوطن في جوهره هو عقد اجتماعي يقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، فلا يمكن للوطن أن يكون ملكا لفئة دون أخرى بل هو ملكية جماعية تبنى على الاحترام المتبادل والعمل المشترك، وعندما يشعر المواطن أن وطنه ينصفه ويوفر له الحد الأدنى من الكرامة ليتحول الوطن إلى قوة توحد الجميع مهما تباينت خلفياتهم.
وبما أن الوطن لا يبنى إلا بجهود أبنائه، فإن الوطنية تشكل الرافعة الأساسية لهذا البناء، فالوطنية ليست حالة احتفالية تستدعى في المناسبات فقط بل هي ممارسة يومية تترجم إلى أفعال تعكس حب الوطن والالتزام بقضاياه، وهي ليست في الشعارات ولا في رفع الأعلام فقط بل في احترام القوانين والعمل بجد والإصرار على مقاومة كل أشكال الفساد واللامبالاة، وفي تونس الوطنية بحاجة إلى تجديد معناها لتتحول إلى عنصر يجمع بين الفخر بالماضي والعمل على بناء مستقبل مشترك إنها ليست مجرد علاقة وجدانية مع الأرض بل هي إيمان عميق بأن الوطن يستحق الأفضل وبأن كل فرد يحمل مسؤولية الإسهام في هذا البناء.
لكن هذه القيم، رغم أهميتها تواجه اليوم تهديدات متزايدة تجعل الحديث عنها أكثر إلحاحا، وما يجعل الحديث عن الهوية والمواطنة والوطن والوطنية أكثر إلحاحا اليوم هو الشعور العام بأن هذه القيم بدأت تفقد بريقها،فالأزمة ليست في طبيعة القيم نفسها بل في غياب مشاريع كبرى تجعلها جزءا من حياة التونسي اليومية، ولعل غياب العدالة الاجتماعية والبطالة والتهميش وضعف التعليم كل هذه العوامل تسهم بشكل جلي في تآكل هذه القيم، فعندما يشعر المواطن أن الدولة لا تنصفه أو أن حقوقه مهدورة يتراجع شعوره بالانتماء وتتحول المواطنة إلى علاقة سطحية والوطنية إلى مجرد ذكرى.
ومع إدراك حجم الأزمة، يبقى الحل ممكنا إذا تم تبني مشروع وطني شامل يعيد الاعتبار لهذه القيم، فلا يمكن الحديث عن ترسيخ الهوية والمواطنة والوطن والوطنية دون مشروع وطني شامل يقوم على إصلاح النظام التعليمي ليعلم الناشئة معاني الهوية والمواطنة والوطن والوطنية بطرق إبداعية ترسخ هذه القيم في عقولهم وتعزيز العدالة الاجتماعية بتوفير فرص متساوية للجميع تعزز شعور المواطنين بالانتماء وتعيد الثقة في مؤسسات الدولة، وإطلاق مشاريع ثقافية وتنموية تجعل الثقافة التونسية مرآة للهوية الحية القادرة على التطور دون أن تفقد جذورها، إلى جانب تعزيز دور الإعلام والمجتمع المدني لنشر قيم المواطنة والعدالة والوطنية، وأخيرا مكافحة الفساد الذي يعد العائق الأكبر أمام بناء الثقة بين المواطن والدولة.
إن ترسيخ قيم الهوية والمواطنة والوطن والوطنية ليس خيارا يمكن تأجيله، بل هو ضرورة حتمية لضمان بقاء تونس دولة قوية ومتماسكة، هذه القيم هي التي تجعل الوطن أكثر من مجرد مكان والمواطنة أكثر من علاقة رسمية والهوية أكثر من ماض محفوظ في الذاكرة؛ إنها الأساس الذي يبني عليه الأفراد والمجتمع مستقبلهم، وتونس اليوم تحتاج إلى أبنائها كما يحتاجون إليها، فالوطن هو الحلم الذي نقاتل من أجله كل يوم وهو القوة التي تجعلنا نصمد أمام كل الأزمات، فعندما تتحول هذه القيم إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا سنتمكن حينها فقط من بناء تونس التي نحلم بها " دولة تحتضن الجميع وتمنحهم فرصا متساوية لتحقيق أحلامهم وتجعل من الانتماء قيمة سامية تلهم الأجيال القادمة."