دأبت مدينة العلوم بتونس منذ افتتاحها على تنظيم تظاهرات علمية لتمكّن جمهورها من مواكبة مختلف الظواهر الفلكية من خلال باقة من الأنشطة العلمية المتنوّعة اعتمادا على مؤطريها العلميين من جهة، وعلى شركائها الفاعلين من ممثلي المجتمع المدني، من جهة أخرى، والغاية من ذلك تبسيط العلوم بصفة عامة والفلكية منها بصفة خاصة أمام جماهير تختلف توجهاتهم وتطلعاتهم، وفي هذا الإطار اندرجت سهرة ليلة الجمعة 27 جويلية 2018 التي نظّمتها المدينة بالتعاون مع وزارةالتربية والمعهد الوطني للرصد الجوي والجمعية التونسية لعلوم الفلك واستقطبت ما لا يقل عن ثمانية آلاف شخص.
لقد احتفت ليلة النجوم 2018 بظاهرتين فلكيتين متزامنتين هما الخسوف الكلي للقمر القمر الدموي وظاهرة اقتراب كوكب المريخ، حيث شهدت ليلة 27 جويلية انتظام عقد الشمس والأرض والمريخ على استقامة واحدة، فاقترب المريخ عشرات ملايين الكيلومترات من الأرض متيحا لسكانها رؤية بعض تفاصيله بوضوح بفضل ازدياد لمعانه إلى درجة جعلته أكثر تألقا من كوكب المشتري في سماء الكوكب الأزرق، أما القمر فقد ارتدى وشاحه الأحمر في أطول خسوف كلي يشهده القرن الحادي والعشرين.
في هذه السهرة التي امتدت على خمس ساعات بتوقيت كوكب الأرض، أخذت مدينة العلوم ضيوفها في رحلة جمعت التبسيط العلمي والمعرفة مع الفن، فتآخى علم الفلك مع الموسيقى، والتقى علم الأدن وعلوم الحياة والإنسان بالعروض الحكواتية، وامتزجت الكيمياء مع الرياضيات، وتراقصت البرمجيات المعلوماتية التي تحاكي قبّة السماء على إيقاع نوافير حوض أبي فهر التي جمّلت المكان ووفّرت بعض الانتعاش في ليلة شديدة الحرارة.
وفيما كان ثلاثة عشرة مقرابا فلكيا موّجها عدساته نحو السماء ليرصد كلّ تحركات الأجرام التي ترصّعها أسوة بما قام به غاليلي منذ أكثر من 400 سنة، كانت شاشة العرض العملاقة تبثّ متابعة مباشرة لأطوار أطول خسوف في القرن.
لقد تزاحم نحو الثمانية آلاف زائر على المدينة واختاروا قضاء سهرتهم لمتابعة المحاضرة التي قدمها الباحث بوكالة الأبحاث الفضائية ناسا الدكتور عصام حجي الذي أسهب في التعريف بمهمة روزيتا التي أطلقتها وكالة الفضاء الأوروبية في مارس 2004 لاستكشاف المذنب تشورى شوريموف، ووصلت المركبة “روزيتا” بالقرب من المذنب تشورى في شهر أوت 2014 إلى أن هبط المسبار “فيله” الذى هو جزء من المركبة على سطح المذنب، وذلك بهدف إجراء العديد من الأبحاث العلمية الخاصة بتكوين المذنب من خلال الصور التي تم التقاطها لتحليل كل الأضواء والانبعاث والخواص الكيميائية والفزيائية، واستمرت مهمته لمدة عامين، ووضّح المحاضر بطريقة شيّقة شدّت إليه الجماهير أن المذنبات موجودة منذ ملايين السنين منذ تكوين الأرض.
واستمتع الأطفال وذويهم بطريقة الحكواتية رائدة القرمازي في عرض الأساطير الفلكية التي استقتها من كتاب "قصص الكواكب" (Cuentos de Estrellas) الذي ترجمته ونشرته مدينة العلوم في إطار مشاركتها في البرنامج الدولي لتعليم صغار الأطفال علم الفلك، فقدّمت بطريقة حكواتية عددا من الأساطير الشعبية العالمية مشبعة بالخيال لتفسير الظواهر الفلكية.
كما كان الأطفال متحمسين في المشاركة في الألعاب والمسابقات التي تمّ تنظيمها بهدف الحصول على تليسكوب مصغّر. أما مفاجئة السهرة فقد كانت بلا شكّ عازف الكمان محمد الغربي الذي أمتع الحاضرين بوصلة من الألحان الخفيفة العذبة التي جعلتهم يتراقصون على إيقاعها.
وفي تجربة جديرة بالتشجيع والإحاطة قدّم تلاميذ من المدارس الإعدادية عددا من المجسمات والمعلّقات في علم الفلك الذي ما فتئ يستهوي كلّ فئات المجتمع بما فيه من غموض وتشويق وبعد روحاني وآخر علمي محض.
لقد أخذت المدينة جمهورها خلال سهرة 27 جويلية 2018 في رحلة معرفية وأنزلت العلوم من عليائها لتصبح في متناول الجميع. لم يكن في هذه الرحلة ركّاب من الدرجة الأولى ولا من الدرجة الثانية، بل كان الجميع ممن زار المدينة ليلة 27 جويلية في شكل عائلات أو شباب من العاصمة أو من الأقاليم يرفعون رؤوسهم وينظرون إلى نفس السماء في نفس التوقيت ويكادون يلقون نفس الأسئلة.
تلك هي مهمة مدينة العلوم بتونس سواء من خلال ما تنظمه من تظاهرات فلكية وعلمية أو ما تقدّمه في فضاءاتها في سائر الأيام، تقريب المفاهيم العلمية والفلكية من الأذهان فاتحة بذلك الباب على مصراعيه أمام جمهورها ليتلمّس الطريق لفهم المتناهيات في الكبر والصغر على حدّ سواء، وجعله يستوعب سبب وضوح النهار ويعيش الشروق والغروب بمختلف درجات ألوان الطيف ويغرق في حلكة الليل الدامس دون أن يجزع إذا غاب القمر.
ومن مهامها أيضا أن تجعل جمهورها يعي بأنه لم يكن في مقدور الإنسان أن يرسم خريطة الأرض بما فيها من قارات ومحيطات وتحديد للمسافات دون أن يبدأ برسم خارطة للسماء والاستدلال بنجمة الشمال للاستكشاف والتطوّر وتكوين الحضارات وكتابة التاريخ البشري، وأن كلّ العلوم "صحيحة" كانت أم "إنسانية" هي علوم ومعارف مترابطة أسهمت كلّ الحضارات على حدّ سواء في تطوّرها ونمائها.