الكثير من السكان المحليين الذين قابلتهم دينش يظنون أن البجع تحميها الآلهة، كما تشير الأساطير المحلية، ولكنهم لم يعرفوا أن أعداد البجع في انخفاض شديد
تتدرب ساشا دينش الناشطة في مجال الحفاظ على البيئة على الطيران لمسافة 4 آلاف وخمسمائة ميل قاطعة المسافة من روسيا وصولاَ إلى المملكة المتحدة عبر طريق هجرة طيور البجع؛ ما يضطرها أن تعتاد على الاستيقاظ باكراَ جداَ. لترافق أسراب الطيور بواسطة طائرتها الشراعية.
وتنوي البدء برحلتها تلك هذا الخريف، إذ سترتحل دينش عبر 11 دولة خلال 10 أسابيع. بدءاَ من سهول التندرة المتجمدة في شمال روسيا وغيستونيا ولاتفيا وألمانيا وفرنسا وصولاَ إلى ريف إنجلترا.
وتقوم جمعية الطيور البرية والأراضي الرطبة بالتخطيط لهذه الرحلة وهي جمعية وطنية خيرية لحماية البيئة يترأسها عالم الطيور والرسام بيتر سكوت منذ عام 1940. وتهدف للتعرّف إلى السبب الحقيقي وراء انخفاض أعداد طيور البجع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة والسعي لتوعية بعض الأشخاص الذين يحاولون عرقلة تقدم القائمين على الرحلة.
ولم تتوان ساشا عن رحلتها في ظل برودة الجو القارسة والرياح العاتية في تلك الحقول التي قضت فيها ليالي عديدة في أراض قاحلة متجمدة. ففي آخر رحلة لها في السويد التي كانت تهدف لدراسة الأجواء أصيبت ساشا بمرض في المريء أفقدها صوتها؛ ما يعطيها لمحة عمّا سوف تواجهه لاحقاَ.
مع ذلك فهي مستعدة تماماً ففي الوقت الذي ننتظر حتى تهم برحلتها عند انقشاع الضباب تحضر بدورها المزيد من المعدات الخاصة بها.
وتقدر قيمة الطائرة الشراعية الخاصة بها حوالي 14 ألف دولار، فيما تحمل ساشا معها خوذة وسماعات وهاتفاً يربطها بثلاثة من المشاركين معها في الرحلة وسلطة مراقبة حركة الطيران الجوي كما يربطها جهاز اللاسلكي بفرقة عسكرية عند اللزوم.
أما بدلتها فهي متصلة بأسلاك للطائرة الشراعية، وترتدي ساشا قفازات وجوارب حرارية لتحميها من درجات الحرارة التي تنخفض إلى ما دون الصفر المئوي أحياناً. ويستخدم محرك الطائرة الشراعية أيضاً لشحن عدد من الأدوات التي تحملها.
وستتم عملية الطيران في الجو عن طريق أجهزة للتتبع إضافة إلى وجود منارة وأجهزة تتبع شخصية حالة احتياج الفريق إلى عملية إنقاذ. أما اليوم فساشا تستعمل جهاز “كوبو” للقراءة الإلكترونية متصل بجهاز بالطائرة الشراعية الذي يحتوي بدوره على جهاز تتبع موضوع في حافظة بلاستيكية.
وتمتلك دينش أيضاً عدداً من الكاميرات لتوثيق رحلاتها، وقد قام الفريق سابقاً بتصوير رحلاتهم مستخدمين كاميرات “جو برو” المتصلة بالخوذة، إلا أن عصاة التقاط السيلفي التي تضعها بين رجليها قد تكون الحل الأسهل بالنسبة لها.
وتقول بهذا الخصوص: “أحيانا ما تحدث أخطاء عديدة عندما يكون جهاز ما متصلا برأسك.”
وتعتبر أول 1000 كيلو متر هي الأصعب على الإطلاق، حيث تقوم دينش برفقة ثلاثة من الطيارين (أحدهم روسي ليترجم لهم) بالطيران عبر الأراضي القاحلة لمعقل تكاثر البجع في الصيف قبل أن يتحضروا لاختيار مكان لاستقرار فريق الدعم في “أرتشانغل” في شمال غرب البلاد.
في حين كانت عملية تفحص المكان عبر الخرائط متعبة للغاية، وقامت دينش بنفسها بالذهاب إلى روسيا في الخريف الماضي للبحث عن أفضل المواقع الجغرافية وذات الظروف الجوية الملائمة والتي يمكن للفريق العمل منها.
وتقول: “كان لا بد لي أن أذهب إلى هناك لأعرف تماماً ماذا يوجد في تلك الأراضي عندما لم تسعفنا خرائط جوجل للأرض.” مضيفة: “اتضح أنها أراض مهجورة وحتى أخشاب المباني متهتكة ولا يمكن الاحتماء بها.”
وسيقوم الفريق المكون من أربعة طيارين بالسفر حاملين ما خف وزنه من معدات أساسية وأضواء وأدوات إضافية للأجنحة ومواد قابلة للاشتعال. وسيقومون بالسفر لمئات الأميال نهاراً بحثاً عن مواقع الصيد وعن أماكن المبيت ليلاً، أو يمكن لهم أن يستخدموا فرشات على الأرض مستخدمين الخيم. أما الطعام فهو السمك غالباً إلا إذا حالفهم الحظ وقابلوا من يستضيفهم. بالتالي يعيش الرحالة الأربعة روتيناً يتكون من نشاطات أساسية “الإقلاع، الهبوط، تناول الطعام، الاستدفاء”.
بينما توفر تلك الرحلة فرصة لدينش لترتبط أكثر مع المناطق القادمة في رحلتها. فقد أشارت: “أردت أن أريهم وجهي، أنني سيدة ومع هذا أتمكن من تحمل هذه الصعاب وأخوض تلك التحديات، أردت أن أؤكد لهم أنني شخص مستعد للحوار ولست مصدر تهديد.”
قوبلت دينش بتوقعات سلبية من الكثير ممن أخبروها بأن رحلتها مستحيلة، من جهتها حافظت على أمل وتفاؤل يدفعها للتطبيق على أرض الواقع. ولا شك أنها كانت واقعية أيضاً: “أنا أدرك أن هنالك فرصة كبيرة للفشل، ولا أنكر هذا مطلقاَ.”
ومن الجدير بالذكر أن عدد طيور البجع من فصيلة “تم تندرا” انخفض بشكل ملحوظ في العقود الاخيرة، فقد سجل انخفاضاً من 29,000 إلى 18,000 بين الأعوام 1995 و 2010.
وهنالك الكثير من الأسباب المحتملة لهذا الانخفاض، إلا أنه لا يوجد سبب رئيس معني بتلك النسبة الكبيرة. إذ تموت طيور البجع بسبب الصيد سواء كرياضة أو للأكل، وأخرى تصطدم بأسلاك الكهرباء، بينما تؤكد دينش أن تلك الطيور لم تعد تسافر إلى بولندا بسبب ارتفاع درجات الحرارة فيها.
وتهدف دينش من رحلتها هذه إلى التوصل إلى عدد من الأهداف، أولها أن تتعرف إلى السبب الحقيقي وراء الانخفاض الهائل في أعداد البجع، ومحاولة منها في دمج المجتمعات المحلية في مساعي الحفاظ على الطيور أملاً في تغيير اتجاهاتهم وسلوكهم، كما تهدف إلى الضغط على الحكومة المحلية والبرلمان الأوروبي للتحرك قدماً لدمج المجتمعات أكثر عبر الأفلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
كبداية تنوي دينش أن تجمع بين رحلاتها وبين الأبحاث العلمية، إذ تنوي أخذ عينات من بعض البحيرات بحيث تحاول التعرف إلى الطريقة التي تتغير بها الأراضي وإن كان ذلك يؤثر بشكل أو بآخر على البجع.
ومن ناحية دمج المجتمعات المحلية، ينوي الفريق إحداث تغيير في سلوك السكان وخاصة ممن يمارسون الصيد منهم. تقول دينش: “أحاول العثور على أكواخ الصيد لنبدأ عملنا كفريق من هناك، بحيث نطلب منهم المساعدة أولاً لنعقد علاقة ودية ثم نبدأ بالحديث عن قضية البجع.”
ويختلف الهدف باختلاف الدول، فبعض الدول تحتاج المزيد من المتطوعين، وفي غيرها تكفي أن تقوم بحماية الأراضي الرطبة ومنع رياضة التزلج في الأشهر التي تهاجر بها الطيور.
إلى ذلك، تضيف دينش “عانى حوالي 63% من تلك الطيور من جروح بالغة وينخفض عددها الإجمالي بمستوى غير مسبوق.” ولا أحد يرغب مطلقاً في أن تختفي أعداد البجع بهذا الشكل، حتى الصيادون، إلا في حال تعاملنا مع أشخاص لا أخلاق لهم ولا يمكن تغيير طريقة تفكيرهم”.
أما الكثير من السكان المحليين الذين قابلتهم دينش فيظنون أن البجع تحميها الآلهة، كما تشير الأساطير المحلية، ولكنهم لم يعرفوا أن أعداد البجع في انخفاض شديد، قائلة: “كنا على أمل أن يكون هؤلاء المحليون الفقراء ممن يمكن لنا أن نعتمد عليهم في حماية ما تبقى من البجع”.
بل إن الفريق قام بأخذ صورة تذكارية لهم مع السكان المحليين، فقط لكي لا يظن هؤلاء أنهم حلموا برؤية الفريق الطائر لا أكثر.
وتذكر دينش: “أذكر في السنة الماضية مر بي رجل يبلغ من العمر 80 عاماً وطلب أن يقلني معه إلى البلدة وعندها قال لي أنه من المستحيل أن يصدقه أحد إن قال أن فتاة هبطت في حقله وطلبت منه أن يقلها.”
وتعتبر الحملة أن لا بد من رياح التغيير أن تهب، وقد بدأت فعلاً حسب دينش، “خاصة مع تحرك البرلمان الأوروبي ووجود اهتمام لا بأس به في المشروع. فيما قام سكان أستونيا بدورهم في المشروع، ولكن جهدهم سيكون بلا معنى إن لم يتحرك سكان ليتوانيا ولاتيفيا والقطب المتجمد أيضاً.”
وتضيف : “سيكون هنالك جانب تثقيفي تعليمي نستخدم فيه سلسلة من الأفلام من رحلاتنا والتصوير الحي مستعينين بالتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي في جميع الدول. بل إننا نفكر بالتواصل مع أحدهم في محطة الفضاء الدولية”.
لا شك أن العديد قبلنا راقبوا تحركات البجع منذ عدة أعوام، قام أحد أعضاء الفريق باستخدام إشارات تحديد مواقع حركة البجع وقام بوضعها على أرجلها، وتعتمد كمية المعلومات التي تصلنا على قدرة البطاريات واستقبال أبراج الهواتف.
هذا كان مؤخراً أما سابقا فلم تكن تلك المعدات متوافرة لتتبع حركة البجع، فقد كان بيتر سكوت مؤسس جمعية حماية الطيور والمناطق الرطبة يتبع أساليب بدائية للغاية عندما بدأ برحلته الشغوفة في تتبع البجع، استخدم فيها بداية حمضا خاصا ملونا.
فتقول دينش: “قام بتلوين أطراف البجع بالصبغ الأصفر ويطلقها لمواسم هجرتها، وينتظر رسائل من حول العالم تقول (ما الذي يحدث لتلك البجعات ذات الذيول الصفراء؟)”
ويقطن سكوت في مركز سليمبردج بعيداً عن أعين العامة، حيث يطل منزله على بيئة الطيور التي لم يلوثها الإنسان منذ عام 1989، لذا يمكننا القول إن مكتبه جنة للطيور.
بينما يعج مكتبه بصور ورسومات للبجع، حوالي 10,000 رسمة لوجوه البجع، يقوم بيتر ومن بعده ابنته بتوثيق جميع العلامات والأشكال للبجع.
وحتى تبدأ دينش رحلتها في شهر أيلول. يجب عليها أن تتمكن من عبور أوروبا لتسجل رقماً قياسياً كونها أول سيدة تتمكن من هذا الإنجاز، ثم ستكمل رحلتها عبر لندن ومطار المدينة وتقول إنها ستنزل وتسبح في النهر إن اضطرت لذلك خدمة لمستقبل البجع.