في شمال غرب تونس، في ولاية جندوبة التي تضم تسع معتمديات ذات طبيعة ريفية وجبلية تستيقظ النساء الفلاحيات قبل الفجر ليلتحقن بالحقول التي تشكل عصب الاقتصاد المحلي، غير أن واقعهن اليومي يكشف عن هشاشة عميقة تتجاوز ثقل العمل الزراعي لتشمل غياب الحقوق الأساسية والعدالة الاجتماعية ورغم أنهن يساهمن بشكل مباشر في ضمان الأمن الغذائي الوطني من خلال زراعة الحبوب والخضر وتربية الماشية، إلا أن حياتهن تتسم بالفقر والتهميش وانعدام الحماية الاجتماعية.
وإذا عدنا إلى الأرقام، نجد أن إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2024 أبرزت أن أكثر من 47% من نساء جندوبة يعشن تحت خط الفقر وأن ما يقارب 70% من العاملات الفلاحيات يشتغلن دون أي تغطية اجتماعية أو عقود قانونية في حين أن معدل البطالة النسائية في الوسط الريفي تجاوز 28%، هذه المؤشرات في ترابطها تعكس اتساع الهوة بين الجهد المبذول والمكاسب المضمونة.
من جانب آخر، لا ينفصل الوضع التعليمي عن هذه الصورة القاتمة إذ ما زالت نسب التسرب المدرسي مرتفعة خصوصا لدى الفتيات حيث تنقطع أكثر من 30% منهن عن الدراسة في المرحلة الإعدادية، هذا الانقطاع المبكر يفتح الباب واسعا أمام دائرة التهميش ويجعل الكثيرات عرضة للعمل في المنازل أو الحقول بأجور زهيدة، وبالمثل يعكس الوضع الصحي مشهدا لا يقل صعوبة حيث تعاني النساء من غياب النقل الصحي في القرى النائية وقلة الأطباء في المستشفيات الجهوية مما يحول أبسط الحالات المرضية إلى أزمة حقيقية. وتزداد الصورة قتامة مع تواصل حوادث النقل الفلاحي رغم صدور المرسوم عدد 4 لسنة 2024 المتعلق بالنقل الآمن للعاملات الفلاحيات، إذ يبقى التطبيق غائبا والرقابة ضعيفة ما يجعل طريق العمل رحلة محفوفة بالموت.
وإذا انتقلنا إلى الجانب القانوني، نجد أن الإطار التشريعي التونسي يبدو متقدما من حيث النصوص، حيث يؤكد دستور 2022 على المساواة وحماية الحقوق ومجلة الأحوال الشخصية تمثل مكسبا تاريخيا ومجلة الشغل تنظم علاقات العمل، إضافة إلى القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، والقانون عدد 83 لسنة 2005 الخاص بذوي الإعاقة فضلا عن المرسوم عدد 4 لسنة 2024، غير أن الواقع يثبت أن هذه النصوص غالبا ما تبقى حبيسة الورق وأن الفجوة بين النص والتطبيق لا تزال واسعة وهو ما يجعل المرأة الفلاحية في جندوبة عرضة لمختلف أشكال الاستغلال.
ويزداد الوضع تعقيدا عندما ندرك أن العنف ضد النساء في هذه المناطق لا يقتصر على العنف الجسدي أو الرمزي بل يمتد إلى عنف اقتصادي يتمثل في استغلال جهد العاملات بأجور زهيدة وحرمانهن من الحماية الاجتماعية، كما أن تشغيل القاصرات يشكل جرحا مفتوحا.في النسيج الاجتماعي، في حين تجد النساء ذوات الإعاقة أنفسهن في مواجهة تهميش مضاعف نتيجة غياب سياسات إدماج فعالة، هذه المعضلات في تداخلها لا تعكس فقط غياب العدالة بل تهدد أيضا مستقبل التنمية الفلاحية في منطقة تعتبر من بين الأهم في تونس.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائما فالمجتمع المدني وعلى رأسه جمعيات مثل جمعية المرأة الريفية بجندوبة يعمل على التوعية والضغط من أجل الدفاع عن الحقوق وتفعيل القوانين، كما أن المنظمات الدولية تواصل الدعوة إلى احترام الاتفاقيات الدولية على غرار اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) واتفاقيات منظمة العمل الدولية، وبالتالي فإن التغيير الحقيقي يمر عبر تفعيل عاجل للمرسوم عدد 4 لسنة 2024 لضمان النقل الآمن للعاملات وتعميم التغطية الاجتماعية على كل النساء الفلاحيات وتحسين النفاذ إلى الصحة والتعليم والتصدي الصارم لظاهرة تشغيل القاصرات، إضافة إلى بعث مشاريع تنموية مستدامة تعزز استقلالية النساء اقتصادياً وتحد من الفقر والهجرة.
وفي النهاية، يمكن القول إن المرأة الريفية في جندوبة ليست مجرد عاملة هامشية في الحقول بل هي قلب الفلاحة التونسية النابض وحماية حقوقها واجب وطني ودستوري قبل أن يكون مطلبا اجتماعيا، كما وأن إصلاح أوضاعها هو إصلاح للفلاحة الوطنية بأكملها ورهان على تنمية عادلة ومتوازنة تضع الإنسان وخاصة المرأة الفلاحية في صدارة الاهتمام.