نظم المرصد التونسي للاقتصاد ندوة دولية امتدت على مدى يومين تناولت التهرب الضريبي، الاقتصاد الرقمي وتعبئة الموارد الوطنية والدولية لتحقيق التنمية العادلة بمشاركة خبراء وقانونيين ومختصين في الاقتصاد من مختلف الدول، وذلك بهدف تحليل التحديات الاقتصادية والقانونية الناشئة ومناقشة الحلول العملية لتعزيز العدالة الاقتصادية ومكافحة الفوارق المالية، وركزت أساسا على دراسة الإطار التشريعي الدولي والمحلي وإبراز العلاقة بين التعاون الضريبي الدولي والإصلاحات الوطنية في مواجهة الاقتصاد الرقمي والخدمات العابرة للحدود.
افتتحت الندوة بمناقشة التحولات العالمية في الاقتصاد الرقمي وأثرها على الأنظمة الضريبية، إذ تشير بيانات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن نحو 40% من النشاط الاقتصادي العالمي يتم عبر المنصات الرقمية العابرة للحدود ما يعقد فرض الضرائب التقليدية ويزيد من صعوبة مراقبة التحويلات المالية، فالدول النامية تفقد سنويا ما يقارب 25-30% من إيراداتها الضريبية المحتملة بسبب التهرب الضريبي الدولي ما يعادل نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول وهو ما يضعف قدرتها على تمويل برامج التنمية الاجتماعية والبنية التحتية.
وتم خلالها التركيز على الإطار القانوني الدولي للتعاون الضريبي بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة للإطار الضريبي التي تحدد المبادئ الأساسية للتعاون بين الدول وتنص على تبادل المعلومات المالية ومراجعة الأسعار التحويلية وتطبيق ضوابط دقيقة على أرباح الشركات متعددة الجنسيات، كما ناقشت البروتوكولات الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والتي تتضمن مبادئ لتحديد مركز الضريبة على الأرباح الرقمية وسبل الحد من الممارسات الضريبية الضارة وتعزيز العدالة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والنامية.
على الصعيد الوطني، ركزت المناقشات على التشريعات التونسية المتعلقة بالضرائب ومنها القانون الأساسي للضرائب المباشرة وغير المباشرة (2021) وقانون التحكيم الضريبي الدولي الذي ينظم آليات تسوية النزاعات الضريبية مع الدول الأخرى ويضمن التزام الشركات بالقوانين المحلية والدولية، وأظهرت الإحصائيات الوطنية أن تطوير هذه الأطر القانونية أدى إلى زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة تصل إلى 15% سنويا وهو دليل على أثر التشريعات الحديثة في تحسين قدرة الدولة على تعبئة الموارد الوطنية بشكل فعّال.
هذا وركزت الجلسات على التحديات التي تواجه الدول النامية في التكيف مع الإصلاحات الدولية الضريبية خصوصا فيما يتعلق بالأسعار التحويلية والإبلاغ عن الأرباح العابرة للحدود ومراقبة الأنشطة الاقتصادية الرقمية، كما أظهرت الدراسات أن الفجوات في الخبرة التقنية ونقص الموارد البشرية المؤهلة تؤثر بشكل مباشر على قدرة هذه الدول على تطبيق المعايير الدولية بشكل كامل مما يزيد من احتمالية فقدان الموارد الضرورية للتنمية المستدامة.
كما تم كذلك مناقشة دور الاتفاقيات الثنائية في تعزيز العدالة الضريبية وتعبئة الموارد حيث تبين أن هذه الاتفاقيات تشكل أداة فعالة للحد من التهرب الضريبي وتعزيز قدرة الدول على تحصيل الضرائب خصوصا عند دمجها مع بروتوكولات متعددة الأطراف، وتشير الدراسات إلى أن نحو 60% من الدول النامية تعتمد على الاتفاقيات الثنائية في تعزيز قدرتها التمويلية من خلال تبادل المعلومات وتوحيد معايير التحصيل وتطوير آليات تحكيمية لحل النزاعات الضريبية بين الدول بما يتوافق مع القوانين المحلية والدولية ويوازن بين حقوق الدولة والمستثمرين.
أظهر تحليل البيانات العالمية أن التهرب الضريبي والتهرب الضريبي الضمني يؤدي إلى تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية حيث يبلغ حجم الفجوة الضريبية العالمية نحو 500 مليار دولار سنويا معظمها يفقد لصالح الشركات متعددة الجنسيات الكبرى ما يقلص قدرة الدول على تمويل برامج التنمية المستدامة، وقد أظهرت الورش التفاعلية أهمية دمج التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي في أنظمة التحصيل الضريبي لتحسين الرقابة المالية وتقليل الفاقد وتوفير بيانات دقيقة لدعم صنع القرار الاقتصادي.
كذا تطرقت الندوة أيضا إلى تحديث التشريعات الوطنية لمواكبة الإصلاحات الدولية بما يشمل تعديل قوانين الضرائب على الشركات والأفراد، تنظيم نقل الأسعار بين الشركات التابعة وتطبيق قواعد واضحة للإبلاغ عن الأرباح الدولية، وقد أظهرت المقارنات بين تونس ودول شمال إفريقيا أن الدول التي قامت بتحديث أطرها التشريعية وفق المعايير الدولية سجلت تحسنا ملموسًا في تحصيل الإيرادات الضريبية وتحقيق توزيع أكثر عدالة للموارد وتقليل التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.
كما تناولت العلاقة بين التعاون الضريبي الدولي والقدرة الوطنية على تعبئة الموارد لتحقيق التنمية المستدامة وأكدت الدراسات أن الدول التي تعتمد استراتيجيات شاملة تشمل الرقابة القانونية والفنية، تبادل المعلومات والتحكيم الضريبي تحقق مستوى أعلى من الشفافية والكفاءة المالية، وقد أبرزت الوثائق القانونية التونسية بما في ذلك قوانين التحكيم الضريبي، ضرورة الالتزام بالمعايير الدولية لضمان نزاهة الإجراءات الضريبية وحماية حقوق الدولة والمستثمرين على حد سواء مع الحفاظ على السيادة الوطنية في فرض الضرائب.
اختتم اليوم الأول بالتأكيد على أن الحلول الوطنية وحدها لن تكون كافية لمواجهة التحديات الحديثة وأن التعاون الدولي الفعال سواء عبر الاتفاقيات الثنائية أو البروتوكولات متعددة الأطراف يشكل عنصرا أساسيا في تعزيز العدالة الاقتصادية وتقليل الفجوات الاجتماعية، كما تم تقديم توصيات عملية تشمل تطوير الأطر التشريعية، تعزيز القدرات الفنية والإدارية وتحسين تبادل المعلومات المالية بما يدعم قدرة الدول على تعبئة الموارد بشكل عادل وفعّال.
أما اليوم الثاني، فقد ركز على ورش العمل التطبيقية لتحليل مشاريع الإصلاح الضريبي ومتابعة تنفيذ القوانين الوطنية والدولية واستعراض تجارب عملية لتعزيز العدالة الضريبية
وتحسين الرقابة على الاقتصاد الرقمي، وتم عرض نماذج للمراقبة الفعالة للتحويلات المالية العالمية وتحليل الفجوات المالية الناتجة عن التهرب الضريبي مع تقديم حلول عملية قابلة للتطبيق وفق القوانين التونسية والدولية بما يضمن استدامة الإيرادات وتقليل التفاوتات الاقتصادية.
كما تناولت الجلسات استراتيجيات تعزيز الشمول المالي والاقتصادي عبر تطوير سياسات تحصيل عادلة وشفافة وربط الإيرادات الضريبية بمشاريع التنمية الاجتماعية والبنية التحتية مع مراعاة تأثير الاقتصاد الرقمي على الأسواق الوطنية، وأظهرت الدراسات المقارنة أن الدول التي تعتمد سياسات ضريبية شاملة ومتوافقة مع المعايير الدولية تحقق مستوى أعلى من العدالة الاقتصادية وتقليل الفوارق الاجتماعية ما يسهم في بناء اقتصاد مستدام ومتوازن
في الختام، سلطت الندوة الضوء على ضرورة تبني إصلاحات ضريبية متكاملة ومتسلسلة تجمع بين القوانين المحلية والدولية، التقنيات الحديثة والقدرات الإدارية لضمان تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاقتصادية وتعزيز قدرة الدول على مواجهة التحديات المعقدة التي يفرضها الاقتصاد الرقمي العالمي وتقليل الفوارق بين الدول المتقدمة والنامية مع توفير إطار قانوني متين يدعم التعاون الدولي ويضمن استقرار النظم الاقتصادية المحلية.



