ليس جديداً الكشف أو إحباط عمليات نقل أسلحة في عرض البحر المتوسط قادمة من تركيا في اتجاه ليبيا. لكن الجديد والمرعب، هذه المرة، أن السفينة أندروميدا التي أوقفها خفر السواحل اليوناني قرب جزيرة كريت، في طريقها إلى ميناء مصراته الليبي وتحمل على ظهرها على 29 حاوية فيها مواد كيمائية منها "نترات الأمونيوم" وأجهزة تفجير غير كهربائية و11 خزانا فارغاً لغاز البترول المسال. وقد حمّلت شحنة السفينة من ميناءي مرسين والإسكندرونة التركيين، متّجهة إلى جيبوتي وعمان، لكن تحقيقاً أوليا كشف أن الربان تلقى أوامر من مالك السفينة بالإبحار إلى مدينة مصراتة الليبية لتفريغ الحمولة بأكملها. ومما يزيد الأمر غموضاً أن السلطات اليونانية لم تعثر على خرائط ملاحية في سجل السفينة لمناطق في جيبوتي وعمان. الأميرال يانيس أرجيريو، مدير فرع الأمن والقيادة العامة لشرطة خفر السواحل اليوناني، قال بأن المواد التي تحملها السفينة يمكن استخدامها لبناء قنابل لتنفيذ الأعمال الإرهابية.
هذه الواقعة ليست إلا تفصيلاً صغيراً في الحرب السرية التي يخوضها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ليبيا منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي خريف العام 2011، على أكثر من جبهة، اقتصادياً وعسكرياً، من خلال تنظيمات ليبية لها ولاء مطلق لتركيا، وترى فيها أخر روافدها في الإقليم. وهذه الحرب الأردوغانية، هي جزء من مشروع تركي كبير في المنطقة العربية لاستعادة النفوذ العثماني الاستعماري القديم بعد حوالي مائة عام من أفوله لأسباب ذاتية تخص تحلل الإمبراطورية التركية داخلياً وموضوعية بسبب الحرب الكونية الأولى التي راهنت فيها "دولة الخلافة" على الطرف الخاسر وخسرت بذلك نفوذها وأراضيها التي احتلتها شبراً فشبراً طيلة قرون، ومنها أراضي عربية في الشام والحجاز والعراق وبلاد المغرب.
إن واقعة السفينة تكشف بلا شك تواصل الدعم التركي للجماعات الإسلامية المتطرفة في ليبيا. فهذه الشحنة من المواد الكيمائية الخطيرة والقادرة على تخليق وصنع ألاف المتفجرات الفتاكة، لم قطعاً في طريقها إلى قوات الجيش الليبي ولا إل الأمن الليبي، بل كغيرها من دفعات السلاح السابقة التي وصلت عبر موانئ طرابلس ومصراته كانت متجهة لمخازن الميليشيات الإسلامية. على الرغم من الحظر الدولي للسلاح المفروض أممياً على ليبيا منذ العام 2011 بذريعة حماية المدنيين. والغريب أن التقارير الصادرة سنوياً عن فريق الخبراء الأممي المكلف من مجلس الأمن الدولي بمراقبة هذا الحظر في ليبيا توثق وتكشف عمليات نقل أسلحة من تركيا نحو ليبيا لفائدة المجموعات المتطرفة. بل إن بعض هذه الأسلحة توجه في طرق معاكسة نحو سوريا لدعم جماعات إسلامية مسلحة ينمتي إليها ليبيون جهاديون.
في شهر أغسطس/ أب 2017 نشرت بوابة إفريقيا الإخبارية تحقيقاً تحت عنوان «أموال الشعب لتسليح الإرهاب»: دور الجماعة المقاتلة في تسليح «جماعات سورية»، كشف جانباً من هذه العمليات. كما يكشف تقرير فريق خبراء منظمة الأمم المتحدة بشأن ليبيا لسنة 2015 أنه ومنذ العام 2012، أفاد الفريق بوقوع العديد من عمليات نقل الأسلحة من ليبيا إلى الجمهورية العربية السورية أو بضبط أسلحة وهي في طريقها إلى سوريا. وجمع الفريق، خلال ولايته الحالية، أدلة إضافية تؤكد عمليات النقل.
وأكد الفريق وجود شبكة في ليبيا تقدم الدعم اللوجستي، بما في ذلك كميات كبيرة من الأسلحة، إلى المتمردين السوريين في أعقاب الثورة الليبية. وتضم هذه الشبكة ليبيين يشغلون مناصب رسمية في وزارة الداخلية ووزارة الدفاع. وفي البداية، كانت الشبكة تعتمد على الأسلحة المجمعة من داخل ليبيا، ولكنها سرعان ما بدأت تحصل على الأسلحة من مصادر في الخارج، بحيث لا يمر بعض الشحنات عبر ليبيا على الإطلاق. ولحد الآن، تبين ضلوع الشبكة في ثلاث عمليات نقل على الأقل إلى سوريا، ويجري التحقيق في عمليات أخرى.
بدأت القصة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 عندما أعلن خفر السواحل اليونانيون عن ضبط سفينة شحن تحمل على متنها شحنة كبيرة من الأسلحة والذخيرة قرب جزيرة سيمي في بحر ايجة كانت مبحرة، حسب بعض المعلومات الى تركيا، فيما قالت اخرى ان وجهتها سورية او لبنان. وكشفت وسائل الاعلام المحلية عن الحديث يدور عن سفينة "Nour M" التي كانت تبحر تحت علم سيراليون من أحد موانئ اوكرانيا الى ميناء الإسكندريون التركي محملة بالسلاح.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، قام فريق خبراء الأمم المتحدة بتفتيش حمولة السفينة Nour M، التي ضُبطت في اليونان في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، والتي كانت تشمل 55 حاوية وما يزيد عن 32 مليون طلقة ذخيرة (103 1 أطنان) للبنادق الهجومية والرشاشات، وهي في طريقها إلى طرابلس. وزودت السلطات اليونانية اللجنة والفريق بمعلومات ووثائق كاملة. وتشير هذه الوثائق إلى أن الشركة الشاحنة هي UKRINMASH، وهي شركة حكومية أوكرانية، وأن المرسل إليه هو وزارة الدفاع الليبية وأن شركةTSS SILAH VE SAVUNMA TICARET LIMITED SIRKETT SANAYI، وهي شركة تركية، قد توسطت في الصفقة. وترجع ملكية السفينة إلى شركة TSS GROUP TUTUN SIGARA SANAYI VE، وهي شركة تركية أخرى. ولم تبدأ اليونان حتى الآن أي ملاحقات قضائية بشأن حالة الانتهاك هذه. وكانت المذكرة التي تؤكد فيها السلطات الليبية للسلطات الأوكرانية أنها مستعدة لقبول الحمولة بتوقيع خالد الشريف، وكيل وزارة الدفاع الليبية بعد سقوط القذافي، وهو نفسه المسؤول الأمني في الجماعة الليبية المقاتلة وكنيته "أبو حازم".
ويقول تقرير خبراء الأمم المتحدة: وقد اتصلنا بأوكرانيا للحصول على معلومات عن دور شركة UKRINMASH، وتفاصيل الدفع، ولتحديد ما إذا تم التوصل إلى تسوية نهائية. وردت أوكرانيا بأن الشحنة التي نقلت على متن السفينة Nour M هي الجزء الأول من البضائع المقرر نقلها إلى ليبيا بموجب العقد الموقع بين شركتي UKRINMASH وTSS SILAH VE SAVUNMA SANAYI DIS TICARET LIMITED SIRKET في عام 2013، الذي تمت تسويته تماما. وفي آب/أغسطس 2014، قام ممثلو الشركة التركية ووزارة الدفاع الليبية بزيارة إلى أوكرانيا ومرافق التخزين التي يُحتفظ فيها بالأعتدة المتبقية، وهي بنادق هجومية وذخيرة للأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة. ولم يُطلب من اللجنة حتى الآن أي استثناء بشأن هذه الأعتدة، وسيتصل الفريق بأوكرانيا مرة أخرى ليطلب توضيح ذلك.
ووردت إلى الفريق مزاعم بأن خالد الشريف وشعبان هدية (أمير تنظيم متطرف) سافرا إلى أوكرانيا في آب/أغسطس 2014، للتفاوض على صفقات الأسلحة. وأكدت أوكرانيا هذه الزيارات، مضيفة أنهما” في الوقت نفسه لم يقوما بزيارة لأي جهة تصدير خاصة لإجراء مفاوضات بشأن عمليات نقل الأسلحة“. واتصل الفريق بتركيا أيضا للحصول على مزيد من المعلومات عن الشركة السمسار والشركة التي تعود إليها ملكية السفن، وإثبات ما إذا كانت الشركة السمسار قد طلبت رخصة تصدير من السلطات التركية لعملية النقل هذه النقل. وطلب الفريق أيضا جميع المعلومات والوثائق المتصلة بالمدفوعات. وردت تركيا بأن أنشطة السمسرة لم تكن قد نظمت بعد وأن الشركات الوسيطة لا تحتاج إلى طلب إذن إذا كانت البضائع لم تمس الأراضي التركية. وتعمل تركيا حاليا على مواءمة تشريعاتها مع الأحكام ذات الصلة المتعلقة بتجارة الأسلحة.
وأخيرا، أوضحت السلطات اليونانية أيضا أن هذه المصادرة تشكل عبئاً لوجستا وماليا كبيرا، مما يثير مسألة إدارة عمليات المصادرة التي تتم وفقا لتدابير الحظر التي تفرضها الأمم المتحدة وعدم وجود الدعم المناسب من الأمم المتحدة للتصرف بالأعتدة. ويؤكد التقرير الأممي أن الأسلحة اتي اشتراها خالد الشريف من أوكرانيا وشحنها على متن السفينة "نور" لم تكن ليبيا وجهتها النهائية. فعلى الرغم من أن وثائق النقل، التي وقعها نائب وزير الدفاع السابق في ليبيا، خالد الشريف، تشير إلى أن ليبيا هي المقصد النهائي. بيد أن الفريق أثبت، استناداً إلى بيانات حركة المرور البحري وإعلان من أحد أفراد الطاقم، أن السفينة لم تكن متجهة إلى ليبيا، بل إلى إسكندرون، في تركيا. وكانت الشحنة ستنقلها بعد ذلك جماعة لم تحدد هويتها من تركيا إلى سوريا.
على جبهة أخرى تخوض تركية حرب اقتصادية في الساحة الليبية من خلال تركيز نشاط شركاتها في المنطقة الغربية مستغلة تحالفها مع قوى مالية وعسكرية في مصراته وطرابلس، وأيضا عبر نقل استثمارات ليبية متأتية من أموال منهوبة من أصول الدولة الليبية إلى تركيا. كما توثق تقارير عمليات نقل أموال وذهب من ليبيا نحو تركيا. وغير بعيد عن صلات خالد الشريف ورموز الجماعة الليبية المقاتلة، الذين يقيمون في تركيا منذ أكثر من سنة ونصف ويستثمرون الأموال التي غنموها بعد سقوط النظام في أسطنبول.
في يوليو – تموز 2016، كشف موقع ويكيليكس اليوم أول دفعة من بين ما يقرب من 300 ألف رسالة بريد إلكتروني من الخادم الداخلي (السيرفر) والآلاف من الملفات المرفقة للحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم، من بينها مراسلة تلقاها مسؤول تركي من عبد الحكيم بلحاج، بصفته رئيس المجلس العسكري بطرابلس. وأبدى بلحاج في مراسلته التي هي عبارة عن رسالة مرسلة بالبريد الإلكتروني رغبته في تحويل حصته من مال تم العثور عليه في باب العزيزية إلى حساب أحد أعضاء الحكومة التركية للاستثمار هناك، نظير عمولة 25% في المشاريع التي ينوي تأسيسها. وجاء في الرسالة المؤرخة في 24 أغسطس 2013 أن إجمالي المبلغ المشار اليه هو 75 مليون دولار، وحصته في المبلغ هي 15 مليون دولار، والرسالة موقعة باسم بلحاج بصفته المسؤول العسكري. وأشار بلحاج إلى أنه "تمكن من نقل الأموال خارج ليبيا بمساعدة شركة محلية ليبية".
حول بلحاج ورفاقه، سامي الساعدي وخالد الشريف قسماً كبيراً من غنائمهم المالية إلى تركيا، التي تحولت إلى مركز اقتصادي وغرفة عمليات سياسية وأمنية للكثير من الحركات الإسلامية، وذات علاقة بالصراع الدائر في سوريا. وتم استثمار هذه الأموال في شركات مساهمة تركية واستثمارات تتعلق بمجال الفنادق والمطاعم وشركات أسفار، واقتناء عقارات في تركيا وقناة تلفزيونية. كما تم استثمار قسم أخر من المال الليبي المنهوب في تأسيس شركة الأجنحة الليبية للطيران وبالشراكة مع دولة قطر. التي قامت بإقراض عبد الحكيم بالحاج عن طريق سفيرها في طرابلس مبلغ 750 مليون يورو لإنشاء الشركة التي تعمل في ليبيا وخارجها. مستفيدةً من سيطرة مجموعات إسلامية متطرفة على مطار معيتيقة ومستفيدة من وصول حكومة '' فجر ليبيا'' إلى السلطة في 2014 والتي منحت تراخيص الطيران للشركة بعد أن امتنعت الحكومات السابقة عن ذلك. ووضع على رأسها وسام المصري ابن عم عبد الحكيم بلحاج مديراً.
قصارى القول، إن السياسة التوسعية التركية، أو ما يسميها البعض بــ" الإمبريالية العثمانية"، التي تقودها أحلام وأوهام زعيم العدالة والتنمية تقود تركيا يومياً ومنذ سبع سنوات إلى الكوارث داخلياً وخارجياً. ورغم فشلها في أكثر من محطة بداةً من مصر وصولاً إلى سوريا فإن أردوغان مازال مصراً على المضي فيها، رغم ما تخلفه من مصائب.