اعتدنا أن نربط الإبداع بالمكابدة والألم، كي يضع الفنان الحقيقي كل إحساسه في ما يبدعه، ولا يمكنه تحقيق ذلك دون اختبار احتراق الأصابع بالنار، وعلى الرغم من الأضواء التي تظهر حول المبدعين ممن حققوا شهرة في مجالات الإبداع المختلفة سواء في الأدب أو الفن، إلا أن الكثيرين من القراء لا يعلمون حجم المعاناة التي يعيش فيها الكاتب أو الفنان حتى يصل لمرحلة الإبداع.
القاهرة- يستطيع المتلقي العادي أن يدرك معاناة الكاتب من خلال ما يُسمى بالصدق الفني للعمل الأدبي الذي يقرأه، فالصدق هو تجسيد وبوح بالمعاناة التي مرت على المؤلف في فترات حياته المختلفة، وكلما استقى المبدع مواضيع فنية من واقعه ومن مشاعر البسطاء وهمومهم وأحلامهم كـان إبـداعه عظيم القيمة.
في حديثه عن المعاناة الإبداعية يرى الروائي المغربي الطاهر بن جلون، الذي يكتب باللغتين الفرنسية والعربية، أن هناك علاقة حتمية لا يمكن أن تنفصم بين الفعل الإبداعي والمعاناة التي تمر بالكاتب في حياته اليومية، وما مر به من خبرات سلبية طوال حياته بشكل عام. فالواقع المعاش الذي يحيط بالكاتب كما يرى بن جلون يدفعه إلى المشاكل والهموم، والمبدع الحقيقي لا يتخلص من هذه المعاناة التي تمر به إلا عبر الكتابة عنها، ونقل هذه المعاناة على الورق من خلال شخوص من لحم ودم.
المعاناة والرفاه
الروائي الفلسطيني رشاد أبوشاور يرى أن العلاقة حميمة جدا بين المعاناة والإبداع الأدبي، مؤكدا أنه إذا لم تكن هناك معاناة فلا وجود للإبداع المتميز، ويعتبر أبوشاور أن ما يمر به المبدع من صور المعاناة هي ما تمثل انعكاسا مباشرا يشهد ما يحدث في نفس الكاتب من صراع حقيقي بين ذات المبدع وبين العالم المحيط به من حوله، وهو صراع يتخذ شكلا آخر من الحوار الذاتي في شكل مونولوج بين المؤلف ونفسه.
ويرى أبوشاور أن الموهبـة وحـدها لا تكفي لتصنع عملا جيدا، وحتى التجربة وحدها لا تكفي لإخراج أدب يصل للقـارئ بشكل مباشر، مشيرا إلى أنه يجب وبشكـل ضروري أن يتم صهر “المـوهبة والمعانـاة” مـع الخبرات والتجارب الشخصية، من أجل أن ينجـح المبـدع فـي تقـديم تجربة إبـداعية ثـرية.
وأضاف الروائي الفلسطيني “لا معاناة بلا إبداع ولا إبداع بلا معاناة، وقد انعكست معاناتي على كتاباتي؛ فأنا لا أكتب إلا عبر معاناة، وأحيانا تمر عليّ أعوام لا أكتب فيها شيئا، وأحيانا كثيرة تكون معاناتي أكبر من تجربة الكتابة”.
أما الروائي مصطفى نصر فيقدم وجهة نظر مختلفة قائلا “أقرأ أحيانا مقالات تدعي أن معاناة الأديب تفيده في كتاباته، طبعا كتاب هذه المقالات يعيشون في وهم سخيف، فالكاتب الكولمبي الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز؛ كان يضبط جهاز التكييف في الحجرة التي يكتب فيها إلى درجة تريحه في الكتابة، بينما أعرف مواهب كثيرة ضاعت بسبب معاناة الحياة”.
ويضيف الروائي “لقد قابلت كاتبا مسرحيا سكندريا موهوبا، فرضت عليه حاجته إلى المال أن يعمل عملا إضافيا يعود منه بعد منتصف الليل، فينام دون أن يقرأ أو يكتب كلمة، وابتعد عن الحركة الثقافية وانتهى، وآخر كان مبشرا في كتابة القصة القصيرة، لكنه عمل في شركة استثمارية منذ الصباح إلى الليل، فمن أين يجد الجهد والوقت ليقرأ أو يكتب؟”.
ويتابع نصر “عندما قرأت مذكرات سكرتير أحمد شوقي- أمير الشعراء- تمنيت أن أكون في ثراء شوقي، فقد أعانته حالته المالية المزدهرة على أن يكتب ما يريد، فكتب في مجالات متعددة. وكذلك فعل محمد ومحمود تيمور ووالدهما أحمد تيمور وعمتهما عائشة التيمورية؛ فقد ساعدتهم حالة الرخاء والغنى التي يعيشون فيها على أن يكتبوا ويبدعوا في مجالات كثيرة”.
ويقارن نصر هنا بين واقع شوقي وتيمور والشاعر المصري حافظ إبراهيم الذي كان في حاجة إلى وظيفته لينفق على أسرته، فلم يعط لشعره العناية الكافية، ولم يهتم بجمعه ونشره.
مكابدات الحياة
يرى الروائي أحمد محمد عبده أن عملية الإبداع نفسها معاناة، هي لحظات مخاض، يعاني فيها المبدع من التوتر والقلق والحرص المتواصل على تجويد عمله، وكل هذا يرتبط بمدى حساسيته، ودرجة نضجه الفني والثقافي، وحجم الموهبة، فما سميَّ إبداعا إلا لسموه ورقيه وندرته وتفرده وأيضا عجائبيته وإثارته للدهشة، وتحريكه للأحاسيس والمفاهيم.
ولما كان المبدع مجموعة من المكونات الجسدية والنفسية والروحية، ولكل مُكوِّن منها طاقة وقوة محركة ذاتية، تعتمد في الأساس على قوى محركة خارجية، تتناسب مع كل منها، مادية ومعنوية وروحانية، لذلك ففقدان هذه الأبعاد أو أحدها، لا بد أن له تأثيرا على عملية “المخاض” تلك، فالمبدع لا بد له من مداومة القراءة والتثقيف والسفر في المكان والزمان، لتكوين الفكر والخيال والخبرة، كما يقول عبده.
ويضيف “للبعد المعنوي الأثر الكبير في تجويد الإبداع، لا شك أن القلق على لقمة العيش يعطل المبدع، وربما القلق الوجودي يجود الإبداع، الخوف السياسي يقتل الإبداع، ولأن الإبداع لا أفق له، فهو يكره الرقابة والتحجيم والحجر، الموهبة ربما تتغلب على احتياجات الجسد واحتياجات النفس، لكنها أبدا لا تتغلب على القهر، المبدع طائر يحتاج بيئة بحجم الفضاء، ستكفيه اللقيمات لكن لن يكفيه قفص أو عش”.
ويرى عبده أن الإحباط هو العدو الأول للإنسان بصفة عامة، وللمبدع بصفة خاصة، متسائلا هل يستطيع المبدع وهو صانع لحيوات لا وجود لها على الأرض، أن يتغلب على قهر متطلبات الحياة؟
ويقول الشاعر أشرف البولاقي “بالطبع يتأثر المبدِعُ بمعاناتِه ومكابدته الحياةَ التي يحياها، سواء أكانت هذه المعاناة معيشية مِن أجل البحث عن الخبز، أو مِن أجل البحث عن الحرية، شريطةَ أن يدرك المبدِع أنه لا يمارس الكتابةَ وهي على هامِش حياته – ترفا أو تزجية لوقت فراغ – ولكنه المبدع الذي يعتبر إبداعَه متنا في حياته، فهذا هو الذي يستقي مفرداتِ إبداعه مِن مفردات حياته ومعاناته”.
ويتابع البولاقي “لا يعني هذا تأكيدا على أن المعاناةَ والمكابدة تخلقان إبداعا جيدا بالضرورة، لكنه يعني فقط أن المبدع يتأثر حتما بالمحيط الذي يعيشه، وينعكس هذا على ما يكتب”.
ويؤكد البولاقي أن المبدع المخلص لإبداعه لا تنفصل حياته عن إبداعه، حتى الخيال الذي يستعين به المبدعون، وهو أداة خارجية في الأساس، يتم تطويعه وتوظيفه عند المبدع الماهر ليعبر عن نظرته هو للحياة التي يعيشها، سواء أتم ذلك بوعي المبدع أم دون وعيه؛ نظرا لتمازج الإبداع مع الحياة.
الكاتب أحمد طوسون يقر بدوره أن “الأمور معقدة وملتبسة، فإذا كان البعض يعتبر المعاناة والتجارب التي يعيشها المبدع أحد الدوافع للكتابة ومصدر إلهام وثقل للتجربة الإبداعية والفنية، فالمبدع يستقي إبداعاته من تجاربه الحياتية وتجارب من حوله ومعاناتهم وقضاياهم”.
ويضيف طوسون “في بلادنا العربية لا يعيش المبدع من إبداعه إلا في حالات نادرة، ويصبح العمل ضرورة للحياة، فتضطر مواهب كثيرة إلى العمل في أعمال شاقة تعوقها عن مواصلة مشروعها الإبداعي أو تبعدها عن تنمية موهبتها ورعايتها، وتهجر الإبداع، لكن هذه ليست القاعدة، فمبدعون كثر أبدعوا في مجالات الإبداع المختلفة وتحدوا كل الصعاب الحياتية”.