الإخوان استغلوا سذاجة بعض الحكومات العربية وتواطؤ بعضها، وتساهل أخرى في الوصول إلى الشباب العربي وتخديره بخطاب الأسلمة حتى تشبّع الكثيرون بمقولة 'الإسلام هو الحل'.
زرع الإخوان في وعي أغلب المسلمين ولاوعيهم فكرة دولة إسلامية ضائعة لا تقوم للمسلمين قائمة إذا لم يعيدوا إحياءها من جديد. وقدم الإخوان مشروع تلك الدولة المثالية كوصفة سحرية هي وحدها الكفيلة بإحلال دولة العدل والرفاه لكل العرب والمسلمين وحتى غير المسلمين. ومن هنا ضربوا الدولة الوطنية في مقتل على مستوى العالم العربي بأسره بعد استقلالها، إذ أشاعوا أنها دولة كافرة وغربية تغريبية لا تمت للحضارة الإسلامية بصلة لأنها لا تطبق شرع الله ولا طاعة لمن لا يُحكّم الشرع.
ومنذ نشأتهم كجماعة في نهاية العشرينات من القرن الماضي إلى اليوم، وهم يحرضون الناس على مقاومة تلك الدولة الفتية الحديثة بطريقة أو بأخرى من أجل استبدالها بـ”الدولة الإسلامية”؛ جربوا التسلل إلى أجهزة الدولة ونخرها من الداخل في بلدان معينة، وجربوا استعمال القوة والانقلاب في بلدان أخرى، ودفعوا ببعض المجتمعات إلى الحرب الأهلية بنشر الأوهام والتكفير وأمثلة التاريخ الإسلامي الخ…
وقد راح ضحية ما يسمى بـ”الدولة الإسلامية” مئات الآلاف من الأبرياء بداية من مصر ومرورا بالجزائر ووصولا إلى تونس وليبيا واليمن، في حين أن تلك الدولة المزعومة ما هي إلا أكذوبة اختلقها الإخوان المسلمون ووهم رفعه المتأسلمون والجهاديون والإرهابيون ومن كان على شاكلتهم كشعار مخدر صدقته جماهير مغيبة الوعي، متلهفة لتطبيق ما يسمى شريعة إسلامية. فكيف يمكن الانبهار أو الموت أو تخريب دولة قائمة من أجل كيان لم يكن موجودا بالأمس وغير موجود اليوم ولن يرى النور غدا؟
للإجابة على هذا السؤال، لا ينبغي تشريح كذبة الإخوان الكبرى في موضوع الدولة الإسلامية فحسب، بل يجب تتبع أساليب الإخوان الملتوية في تعبئة الجماهير وإقناعها بما هو غير قابل للتحقيق. لقد استغل الإخوان سذاجة بعض الحكومات العربية وتواطؤ بعضها، وتساهل أخرى في الوصول إلى الشباب العربي وتخديره بخطاب الأسلمة في المدارس والإعلام والحركات الجمعياتية حتى تشبّع الكثيرون بمقولة “الإسلام هو الحل” و”الدولة الإسلامية” أو الجمهورية الإسلامية الفاضلة.
ولم يفسح المجال للمثقفين التنويريين للرد على تخاريف الإخوان إلا في مناسبات قليلة، وهو ما جعل أطروحة الدولة الإسلامية تترسخ شيئا فشيئا في أذهان الأجيال كأنها حقيقة مطلقة غير قابلة للتجاوز باعتبارها إرادة إلهية، وأنهم غير مسلمين بما فيه الكفاية إذا لم يعيدوا إقامة دولة الشرع، فالمسلم الملتزم حسب الإخوان هو الذي يعود إلى وضع سابق تجسدت فيه الفضيلة.
وهكذا أسكن الإخوان في نفوس الشباب شعورا بالذنب ورغبة في التضحية استغلها الإرهابيون أحسن استغلال من أجل السعي لإقامة الدولة المزعومة عن طريق العنف. ولا أكون مبالغا إذا كتبت أن كذبة “الدولة الإسلامية التي أطلقها الإخوان هي التي هيأت البيئة العقلية والنفسية والفكرية للإرهابيين على اختلاف مشاربهم”.
في ظروف أسلمة رسمية كانت ترعاها حكومات وقوى مالية جبارة، لم يكن بوسع التنويري العربي أن يعري مفهوم الدولة الإسلامية وتبيان بهتانه إذ رفع الإخوان تهمة الهرطقة الجاهزة في وجه كل من رأي أن الدولة الإسلامية مجرد حلم غير قابل للتحقيق، وأنها لم تتحقق حتى في صدر الإسلام حينما كانت الحياة بسيطة فكيف تتحقق اليوم والحياة معقدة والعالم قد أصبح قرية واحدة والإنسانية تنحو نحو الوحدة القانونية الضامنة لحرية العقيدة التي تضمن بدورها علمانية الدولة.
فهل يمكن أن تكون الدولة الإسلامية كما يحلم بها الإخوان دولة ديمقراطية؟
كل فكر سياسي/ديني يرى أن “الإسلام دين ودولة” لا بد أن يتعارض حتما مع فلسفة الدولة الحديثة والعلمانية بالأساس، والتي هي وحدها الضامنة للمواطنة أي المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو لونهم، فهل تضمن الدولة الإسلامية المساواة بين الذكر والأنثى والمؤمن والملحد، والمسلم ومن يؤمن بدين غير الإسلام أم تكون دولة المسلمين فقط، وفي هذه الحال كيف تتعامل هذه الدولة مع غير المسلمين، هل تطبق عليهم شريعة لا يؤمنون بها، وهل تعود بنا هذه الدولة الإسلامية إلى زمن الذمة والجزية والشروط العمرية؟
ألا يلخص قول مرشد الإخوان السابق محمد مهدي عاكف، فلسفة الدولة التي يريدون إقامتها “أنا أفضّل أن يحكمني ماليزي مسلم أو إندونيسي مسلم ولا يحكمني مصري مسيحي”، وكذلك ما يقوله خليفته محمد بديع لجريدة ‘الشروق’ يوم 05 /05 /2011 “لا نقبل أن ترتفع أصوات المواطنة والديمقراطية على صوت الدين والشريعة.. الديمقراطية والحرية هما زواج المثليين والوحدة الوطنية هي زواج المسلمات من مسيحيين”.
أما يوسف القرضاوي فيكتب محقرا الوطن والدولة الوطنية الحديثة أن “المواطنة رابطة التراب والطين، ودار الإسلام ليس لها وطن، ولا رقعة محددة ولقد شجع المستعمرون النعرة الوطنية كي يحل الوطن محل الدين وأن يكون الولاء للوطن وليس لله.. وأن يموتوا في سبيل الوطن لا في سبيل الله”.
وفي نفس هذا الاتجاه الرافض للدولة الوطنية سجد الشعراوي شكرا لله عندما علم بهزيمة مصر أمام إسرائيل سنة 1967. وحتى وإن سلمنا بمنطق هؤلاء اللاهوتيين وعدنا إلى التراث الإسلامي نفسه، فسوف نجد أن كلمة “الدولة” فيه لا علاقة لها بمصطلح الدولة الحديث في اللغة الإنكليزية والفرنسية الذي يعني كيانا سياسيا على أرض محددة وشعبا وسلطة، وإنما تعني الدولة في التراث جماعة حاكمة تنتسب إلى قبيلة أو تحالف قبلي.
سيجد الإخوان وكل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بين خيارين لا ثالث لهما: إما تنقية مشروعهم من كل الشوائب المتناقضة مع الدولة الحديثة وبالتالي فكأنهم قد تخلوا عن مشروعهم وإما الاصطدام مع القانون الدولي الذي لا يمكن أن يعتبر “دولتهم” دولة. ومن هنا فمن العسير أن تعترف بها الدول الأخرى إذ كيف يمكن أن تتعايش مع كيان يمارس التفرقة الدينية والجنسية ويعتبر الجهاد من مستلزمات الإيمان ولا يعترف بمواثيق حقوق الإنسان الضامنة لحرية التعبير والمعتقد؟
كيف يمكن لمجتمع دولي يواجه إرهاب داعش في كل لحظة ويعمل كل ما يستطيع لإقناع بعض الدول الـ“شبه إسلامية” من أجل تعطيل بعض الأحكام البربرية، أن يسمح بإقامة “دولة إسلامية” هو يعرف مسبقا أنها ستكون عامل توتر وحروب وهجرات نحو الغرب لم يسبق لها مثيل؟