بعد مهم يسحب من حركة النهضة وجاهة القول إنها تحولت فعليا إلى مرتبة الحزب السياسي هو تلك الهوة الكبيرة بين الوثائق التأسيسية للحركة والواقع الراهن للممارسة السياسية كما للوضع السياسي التونسي بعد الثورة.
العرب عبدالجليل معالي
تهديد المكتب التنفيذي لحركة النهضة التونسية السبت الماضي بمقاضاة الأشخاص أو المؤسسات الإعلامية التي تشن حملات “تشويه” و“تحريض” ضدها، وتصريح زعيمها راشد الغنوشي الذي أورد فيه أن تصريح أحد نواب الجبهة الشعبية الذي اعتبر النهضة ليست حزبا سياسيا هو مراهنة على حرب أهلية، إضافة إلى مواقفها المتشنجة الأخيرة من قضايا التطبيع مع العدو الصهيوني أو من مسألة التصنيفات الأوروبية لتونس، كلها مواقف يمكن من خلالها استخراج نظر الحركة للعملية السياسية في البلاد، كما للعلاقات السياسية التي تسودها.
على أن المعطى الأساسي والتي دأبت الحركة على رفضه ونفيه والتحسس منه هو قضية عدم اعتبارها حزبا سياسيا. وهو ما يجيز طرح السؤال المباشر؛ هل تقدم حركة النهضة فعلا ما يدل على أنها حزب سياسي، بكل ما في التوصيف من مدنية لازمة؟
ليس ضروريا الإسهاب في التذكير بمقومات الحزب السياسي المدني، (صفة المدنية إضافة ضرورية ملازمة للحزب السياسي) ومنها وجوب توفر أبعاد السلمية والمدنية وتوفر المؤسسات والإيمان بالسعي للوصول إلى السلطة وفق الأطر الديمقراطية واحترام الكيانات السياسية الأخرى، وغيرها من المقومات، لكن هذه المقومات وإن حرصت حركة النهضة على التأكيد على توفرها، إلا أن أداءها السياسي، سواء في فترة الترويكا أو في ما بعدها، يتضارب مع مقومات أخرى تذهب بالحركة إلى غير ما تسوق له دائما، من كونها حزبا سياسيا كامل الأوصاف.
حركة النهضة أعلنت تحولها إلى “حزب سياسي” في العام 2016، وقدمت بذلك ما يفيد وعيها الضمني بتأخرها في هذا الشأن، حيث أعلن راشد الغنوشي في شهر مايو 2016 على هامش انطلاق فعاليات الدورة الـ46 لمجلس شورى الحركة “نحن بصدد التحول إلى حزب يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقا من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب بما في ذلك النهضة”.
هذا الإعلان وهذا الوعي بالتأخر في هذا الباب طرحا أسئلة كثيرة يومئذ مفادها؛ ماذا كانت هوية الحركة قبل ذلك التاريخ؟ وأتاحا أيضا اختبار جدية ذلك التحول من حركة إلى حزب، وهو ما تُرك يومئذ أيضا للمحطات السياسية التي جاءت بعد ذلك، وأثبتت النهضة من خلالها أنها مازالت تقبع في مرحلة الجماعة أو في “المنزلة بين المنزلتين” في أحسن التقديرات.
الواضح هنا أن وجود تيارين كبيرين داخل النهضة؛ تيار دعوي وتيار سياسي، وهو وجود تعترف به قيادات ومؤسسات الحركة ذاتها، هو دليل على أن النهضة لم تبارح بعدُ بنية الخِطاب الأيديولوجي والسياسي الذي انطلقت منه، ولعل إصرارها أو إصرار بعض قياداتها وقطاع واسع من قواعدها على أهمية “الجناح الدعوي” قرينة على سطوة هذا الجناح وعلى أهميته في وجدان القواعد والقيادات، ومؤشر كذلك على أنه مازال يحدد أو يساهم بقوة في رسم سياسات الحركة.
بعد آخر مهم يسحب من حركة النهضة وجاهة القول إنها تحولت فعليا إلى مرتبة الحزب السياسي هو تلك الهوة الكبيرة بين الوثائق التأسيسية للحركة والواقع الراهن للممارسة السياسية كما للوضع السياسي التونسي بعد الثورة. هوة تفرض على الحركة مراجعة تلك الوثائق أو تحيينها بما يتلاءم مع واقع البلاد وتطلعات الحركة، وتشير أيضا إلى تباين كبير بين الرغبة في التحول إلى حزب سياسي مدني (لدى بعض القيادات) وبين نظر غالبية القواعد إلى هوية الحركة، حيث ترى القواعد بوجوب تشبث النهضة بهويتها الأصلية كحركة سياسية ذات مرجعية إسلامية أخلاقية.
البعد الآخر الدال على أن النهضة مازال أمامها الكثير لكي تتحول فعلا إلى حزب سياسي هو مؤسسات الحركة، من قبيل مجلس الشورى وهو المجلس الذي يقع تحت سيطرة “الجناح الدعوي” المؤثر والفاعل، وهو جناح لا ترى النهضة ضيرا في الاعتراف بوجوده وحتى بسطوته في إطار ما تم الاتفاق عليه من تقاسم “التخصص” بين الجناح الدعوي والجناح السياسي.
وباعتبار أهمية مجلس الشورى في تراتبية النهضة (مجلس الشورى هو أعلى سلطة بين مؤتمرين ومهمته ضبط السياسات الكبرى وتحديد التوجهات العامة للحزب) وباعتبار سيطرة العناصر المتشددة المنتمية “للجناح الدعوي” عليه، خاصة وأن أغلب أعضائه من القيادات التاريخية للحركة التي دخلت السجن ولم تغادر البلاد وهو ما يعني أنها أكثر راديكالية وأقل مناورة، فإنه يمكن تبين أن تلك المؤسسة بقدر ما يحيل اسمها إلى زمن سياسي غير معاصر، فإنها أيضا مؤشر مضاف إلى أن حركة النهضة مشدودة بقوى داخلية وبمنطلقات ومرجعيات أيديولوجية إلى الجماعة بشكل يفوق “توقها” المعلن إلى التحول إلى حزب سياسي.
يبقى أن التشنج الأخير الذي طبع مواقف الحركة، يتضافر مع مواقف أطراف سياسية كثيرة، لا فقط الجبهة الشعبية، في بيان توجس الطبقة السياسية التونسية من هوية الحركة ومستقبل فعلها السياسي. الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ردد في أكثر من مناسبة وتصريح أن النهضة ليست مدنية بأتم معنى الكلمة، وعزز ذلك بالقول إنه حاول جر النهضة للمدنية لكنه لم يتوصل لذلك، ويلتقي ذلك مع تصريح محسن مرزوق الأمين العام لحركة مشروع تونس، الذي قال فيه إن النهضة ترفض النقد وكل من ينقدها يعبر طرفا “استئصاليا” وشدد على ضرورة أن تقطع نهائيا بين الدين والسياسة.
ولذلك فإن المواقف الأخيرة للحركة ولزعيمها، دالة على أن الحركة التي ترفض الاختلاف والنقد (حتى الذي ينفي عنها صفة الحزب) بما أضفي عليها من تشنج وانفعال من قبيل اعتبار سحب الصفة السياسية عنها دعوة لحرب أهلية، هي مواقف تحيل أو تذكر بعقلية التكفير والتحريم التي تسود البنية العميقة للحركة، وتذكر أيضا بتراث المظلومية الذي طالما اعتاشت منه الحركة، وواظبت على أساسه على التذكير بأنها ضحية “الفكر الاستئصالي” للأنظمة السابقة أو للتيارات اليسارية.
أغلب المكونات السياسية قدمت بينات على “ادعائها” بأن النهضة مازالت بعيدة عن مدنية طالما سوقت لها، ويبقى على حركة النهضة أن تقدم ما يضفي على “إنكارها” بعض الوجاهة، وفي الانتظار يظل السؤال قائما: هل النهضة فعلا حزب سياسي؟
كاتب وصحافي تونسي
عبدالجليل معالي