في خطوة غير مفاجئة لدى البعض ضمّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد إلى فريق مستشاريه وكلّفه بملف الاستشارات السياسية بعد أن أدرك أنه قد خدع من قبل بعض معاونيه المتحالفين مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
تونس- يتواصل في تونس انسداد الأفق السياسي الذي أدّى منذ مطلع العام الجاري إلى المزيد من تأزم الوضعين الاقتصادي والاجتماعي بسبب انشغال كل مكونات الطبقة السياسية، وفي مقدمتها حزبا الحكم نداء تونس وحركة النهضة الإسلامية من جهة ورئيس الحكومة يوسف الشاهد من جهة ثانية، بالرهانات السياسية وتحديدا الانتخابية التي تسبق محطّتي الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2019.
بعد أن تمكّن يوسف الشاهد بوقوف حركة النهضة (صاحبة أكبر كتلة برلمانية) في صفّه من الصمود في وجه الأطراف السياسية أو المنظمات الاجتماعية التي طالبت منذ أشهر بوجوب إقالته وحكومته برمتها عندما تم التنصيص في مفاوضات قصر قرطاج في مسودة وثيقة اتفاق قرطاج على البند 64 الذي نصّ صراحة على ضرورة تغيير الحكومة الحالية، أصبحت المعركة السياسية بين قصر القصبة (قصر الحكومة) وقصر قرطاج (قصر رئاسة الجمهورية) واضحة للعيان بل ومعلنة وأكدتها مؤخرا تحركات كل جهة لضمّ وجوه سياسية إما لها رصيد سياسي أو منحدرة من النظام القديم (نظام زين العابدين بن علي).
وفي خطوة غير مفاجئة لدى البعض ضمّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أول الأسبوع رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد إلى فريق مستشاريه وكلّفه بملف الاستشارات السياسية بعد أن أدرك الرئيس وفق كل الملاحظين أنه قد خدع من قبل بعض معاونيه المتحالفين مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد من قبيل المستشار نورالدين بن تيشة الذي تم التخلّي عنه.
وكان الحبيب الصيد قد كلّف بمهمة رئاسة الحكومة التونسية عقب نجاح نداء تونس في الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2014، قبل أن يتخلّى عنه الرئيس التونسي في ماي 2016 بإطلاقه مبادرة ما يعرف بحكومة الوحدة الوطنية التي نال رئاستها يوسف الشاهد.
ويرجع الكثير من المحللين خطوة الباجي قائد السبسي الجديدة، إلى تواصل حرب الانتدابات بينه وبين يوسف الشاهد، بتأكيدهم أن عودة الحبيب الصيد الذي لم يعرف عنه من قبل أي دور أو فعل سياسي يذكر متأتية بالأساس من مدى معرفة الرجل بكل كبيرة وصغيرة عن يوسف الشاهد الذي شغل خطة وزير في حكومته التي شكلها عام 2015. وأثارت إعادة الحبيب الصيد إلى الواجهة جدلا واسعا في الأوساط السياسية التونسية، إلا أن الكثيرين يقرون بأن عودته لم تأت من فراغ بل إنها مرتبطة وثيق الارتباط بعودة المستشار السابق للرئيس التونسي رضا بالحاج إلى حزب نداء تونس، خاصة وأن الأخير كان من أكثر المدافعين في عام 2015 عن بقاء الصيد رئيسا للحكومة.
وقال حاتم العشي وزير أملاك الدولة السابق في حكومة الحبيب الصيد إن عودة الحبيب الصيد إلى المشهد السياسي وتحديدا إلى قصر قرطاج هي بمثابة ردّ الاعتبار إلى شخصه من قبل الباجي قائد السبسي بعد أن تمّت إقالته في عام 2016 بطريقة لم تكن متوقعة رغم تفانيه في خدمة البلاد”.
وأضاف أن مراهنة رئيس الجمهورية على الحبيب الصيد لإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان ربما هي رسالة واضحة لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، مؤكّدا أن الصيد دائما ما كان يعلن أنه بمثابة الجندي المتجنّد لخدمة الوطن في أي منصب.
ورجّح العشي أن يكون الباجي قائد السبسي قد شعر بخذلان من قبل بعض مستشاريه المتهمين بخدمة أجندات رئيس الحكومة ولذلك هو الآن “يراهن على ورقة الصيد لما عرف به الرجل من ثقة ونزاهة”.
وشدّد على القول إن تغيّرات جذرية قد تحصل في الأشهر القليلة القادمة وتبقى من أهمها إمكانية استقالة يوسف الشاهد في ظلّ ما تتم ملاحظته من تحركات له ساعية لتكوين حزب سياسي جديد قد يدخل به الانتخابات المقبلة.
ويرى العديد من الملاحظين أن الشاهد دخل بصفة تامة في رهانات تأمين مستقبله السياسي في ظل اتهامه بتوجيه بوصلته إلى رئاسة الجمهورية في عام 2019 خاصة أنه أقدم بالتزامن مع تعيين الباجي قائد السبسي الحبيب الصيد مستشارا له على تعيين كمال الحاج ساسي -أحد أبرز وجوه النظام القديم- مستشارا سياسيا له ولحكومته.
وفي نفس اليوم الذي تسابقت فيه مؤسستا رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة على انتداب بعض الشخصيات والأسماء، أثارت استقالة عدد من نواب حزب حركة مشروع تونس الذي يرأسه محسن مرزوق (المستقيل منذ عام 2015 من حزب نداء تونس بعد أن شغل سابقا خطة مستشار سياسي للباجي قائد السبسي) جدلا واسعا صلب الحزب وفي الساحة السياسية لما يتهم به المستقيلون من ولاء ليوسف الشاهد.
الشاهد يخترق الأحزاب
أكّد الصحبي بن فرج النائب والقيادي المستقيل من كتلة الحرة لحركة مشروع تونس أن مرد استقالته رفقة خمسة نواب آخرين من حزب حركة مشروع تونس عدة عوامل تراكمت منذ مرحلة التأسيس ومن أهمها كيفية تعامل قيادة الحزب مع الملفات السياسية الحارقة.
وشدّد على أنه قرر الاستقالة بصفة نهائية من حركة مشروع تونس على خلفية عدم وضوح علاقة الحزب بكتلة الحرة خاصة بشأن التصويت على منح الثقة لوزير الداخلية الجديد الذي “لم تكن فيه مواقف الحزب والكتلة متناسقة”.
وحول ما يتّهم به من اصطفاف وراء رئيس الحكومة يوسف الشاهد، قال بن فرج “ما العيب في الاصطفاف وراء رئيس الحكومة إن وجد أصلا؟”.
وأكّد أنه -على عكس البعض- كان منذ أكثر من سنة ونصف السنة، حين كانت الحكومة الحالية آيلة إلى السقوط، من المدافعين عنها وعن برامجها وخاصة في علاقة بإعلان رئيسها منذ عام 2016 الحرب على الفساد.
ويتّهم رئيس الحكومة في الآونة الأخيرة بدخول بيت طاعة حركة النهضة الإسلامية لمجابهة خصمه حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لحزب نداء تونس المتشبث بإقالة الحكومة، علاوة على اتهامات أخرى من قبيل مساعيه لتأسيس حزب عبر تمكّنه من اختراق جل الكتل البرلمانية الحزبية التي ضمنت له إلى حدود اليوم مواصلة قيادة البلاد.
ويرتكز أصحاب هذه التصوّرات على استقالة المهدي بن غربية وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان من منصبه وإعلانه بعد سويعات فقط من مغادرة القصبة نيته تأسيس حزب جديد يكون بديلا عن فشل الأحزاب الحاكمة وهو ما يراه البعض داخلا في مخططات رئيس الحكومة الحالي.
من جهة أخرى، يؤكّد الكثير من المتابعين لحيثيات وكواليس ما يحصل من حروب خفية أو معلنة بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس أن يوسف الشاهد تمكّن من ضمان منصبه عبر لعبه ورقة الحرب على الفساد التي تخيف وفق الملاحظين العديد من قيادات حزبي الحكم ولذلك تمكّن من حشد أصوات النواب خلال جلسة منح الثقة لوزير الداخلية الجديد.
ولا تنذر تكتيكات رئيس الحكومة إلا بالمزيد من تأزم الوضع السياسي، خاصّة أنه كان قد دفع حتى أكثر المنتقدين لسياساته من حزبه الأم نداء تونس أو من أحزاب أخرى كالاتحاد الوطني الحر أو حركة مشروع تونس ونداء تونس إلى منح الثقة لوزيره الجديد، إلا أنه تمسّك بتجاهل نهاية مهلة الأيام العشرة التي منحها له حزبه نداء تونس لعرض حكومته على البرلمان.
وكان رئيس كتلة نداء تونس سفيان طوبال قد أعلن في ندوة صحافية عقدت يوم جلسة منح الثّقة لوزير الداخلية هشام الفراتي في 28 جويلية الماضي أن الكتلة تطالب بتغيير حكومي شامل وتدعو الشاهد إلى عرض حكومته على البرلمان.
ووفق تقديرات بعض المراقبين، فإن رئيس الحكومة تمكّن من التمرّد حتى على رئيس الجمهورية بعد أن نجح في اختراق جل الأحزاب تقريبا، إذ كان له دور كبير في انقسام أحزاب حركة مشروع تونس وآفاق تونس والحزب الجمهوري وآخرها حزب المسار الديمقراطي حين جمّد وزير الفلاحة سمير الطيب عضويته بالحزب الرافض لبقاء الحكومة الحالية على رأس السلطة. أمّا بخصوص حركة النهضة الإسلامية -أحد أهم أضلاع الحكم- فرغم إعلانها صراحة الوقوف إلى جانب يوسف الشاهد على حساب نداء تونس أو الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة عمالية في البلاد)، فإن كل المؤشرات السياسية تدل على أن الحركة تواصل نهج نفس السياسة التي اتسمت بها منذ دخولها عالم السلطة عقب ثورة جانفي 2011، والرامية إلى تفكيك الأحزاب لتتحكم وحدها في نبض المشهد السياسي بالبلاد.
وعلى عكس ما يذهب إليه الكثيرون فإن دعم مقر مونبليزير (مقر حركة النهضة) -وفق بعض الملاحظين- ليوسف الشاهد ليس متأتيا من إيمانها بقدراته أو بكفاءته بل يدخل في خانة مساعيها المتواصلة لإفراغ الساحة السياسية من أي خصم محتمل بمواصلة الرهان على تأجيج الصراع بين الشاهد وحافظ قائد السبسي خصوصا أن ذلك يتزامن مع غياب شبه كليّ للمعارضة عن تطورات الساحة السياسية.
ونجحت الحركة الإسلامية في ربح العديد من النقاط في البارومتر السياسي، أولا لجعلها رئيس الجمهورية عاجزا -من الناحية الدستورية- عن إقالة يوسف الشاهد، وثانيا لنجاحها في استمالة بعض الوجوه والأسماء التي عرفت سابقا بعدائها لحركة النهضة من قبيل سمير الطيّب وزير الفلاحة والأمين العام لأقدم حزب شيوعي في تونس (حزب المسار الديمقراطي حاليا) والذي نوّه بمقدرة النهضة على النجاح والغوص في النسيج المجتمعي التونسي بقوله “النهضة هي الأقرب إلى المواطن عكس العائلة اليسارية التي يبعث وضعها على الاشمئزاز”.
المعارضة تائهة
في قلب الأزمة السياسية التي تعيش على وقعها البلاد منذ مطلع عام 2018 بدت أحزاب المعارضة -وتحديدا الأحزاب الراديكالية التي يقودها اليسار ممثلا في الجبهة الشعبية أو العائلة الديمقراطية الاجتماعية- عاجزة عن طرح بدائل عملية لإنقاذ البلاد من شللها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ومع رجوع بعض أسماء النظام القديم لتصدّر المشهد السياسي، بات بعض التونسيين يتحدثون عن قبر ثورة جانفي بلا رجعة في ظلّ التمتع بغنائمها في علاقة بالحريات فحسب التي لم يتبعها بالضرورة رفاه ونمو اقتصادي.
وقالت نزيهة رجيبة (الملقّبة بأم زياد) الناشطة السياسية والكاتبة الصحافية -وهي أحد أهم المعارضين لسياسات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي- ” إن الاستعراض الفلكلوري الذي تقوم به مؤسستا رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة باختراق بعضهما البعض أو عبر التعنّت في ملف التعيينات والتعيينات المضادة لا يدلّ إلا على المزيد من مظاهر انتكاسة الثورة التونسية. وأكّدت أم زياد أن من يمكسون بمقاليد الحكم اليوم في تونس سواء تعلق الأمر بالائتلاف الحاكم -النهضة ونداء تونس- أو تعلق برأسي السلطة التنفيذية لا يمتوّن لثورة جانفي 2011 بأي صلة.
وتابعت نزيهة رجيبة حديثها قائلة “إن حزبي الائتلاف الحاكم -ومن ورائهما رئاستا الجمهورية والحكومة- تمكنا من تحويل ثنايا ومسارات الشعب الحقيقية إلى الحديث عن قطبين سياسيين فحسب؛ أي أنهما دخلا في مرحلة الاستقطاب الثنائي قبل الانتخابات بكثير بهدف إشعار التونسيين بأنه لا وجود لقوى في البلاد سوى النهضة الإسلامية أو نداء تونس”.
وأقرّت نزيهة رجيبة -التي فضّلت عدم الظهور الإعلامي منذ سنتين تقريبا- بأنّ أحزاب المعارضة وجدت نفسها عاجزة عن مقارعة حزبي الائتلاف الحاكم لإنقاذ البلاد من مرحلة الوهن التي أصابتها منذ تحالف الباجي قائد السبسي مع حركة النهضة في عام 2014.
وشدّدت على أن القوى الديمقراطية المعارضة لم تنجح بالقدر الكافي في اختراق النسيج المجتمعي التونسي الذي يمكنها حتما من لعب أدوار رئيسية في المشهد السياسي التونسي.
وأكّدت أن معضلة المعارضة التونسية -التي تعرضت وفق تقديرها لهجوم من بعض وسائل الإعلام- تكمن في أن أهم أطرافها تخندقت في مغازلة حركة النهضة الإسلامية كحزب المؤتمر من أجل الجمهورية أو حراك تونس الإرادة الذي يقوده الرئيس السابق المنصف المرزوقي أملا في وجود مساند رسمي في الانتخابات القادمة، أما الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية) فما زالت مطاردة من لعنة دعم الباجي قائد السبسي والتحالف معه في عام 2014.
ورغم نظرتها السوداوية نوعا ما إلى ما آلت إليه أوضاع البلاد خاصّة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن نزيهة رجيبة قالت ” إنها ما زالت تؤمن بالثورة، نافية أن يكون قد تم قبرها، مؤكّدة أنها ما زالت تؤمن بالنفس النضالي الذي يحمله طيف واسع من الشباب التونسي المؤطّر في منظمات المجتمع المدني.
يشار إلى أن المعارضة التونسية تتهم هي أيضا -وعلى شاكلة الأحزاب الحاكمة في البلاد- بأنها لم تقدّم أي تصورات أو بدائل عملية تُذكر لتتماهى بالتالي في ممارستها للفعل السياسي مع الائتلاف الحاكم ببقائها طيلة ثماني سنوات تدور في حلقة “احتجاجية” مفرغة إما عبر ترويج نفس الشعارات المتكلّسة، وإما عبر الانخراط أيضا في نفس المنطق المرتكز على تخويف الشعب من مؤامرات تحاك ضدّه من قبل أطراف أجنبية وداخلية.
وسام حمدي / صحافي تونسي