من يحكم تونس هو الارتجال والتنصل من المسؤولية وغياب المساءلة والإفلات من العقاب، ومن يسوس البلاد هو المنطق الحزبي الضيق الذي يدير ظهره لمشاغل البلاد ولا يتحرك إلا وفق نسق المواعيد الانتخابية.
السؤال ليس طارئا على المشهد السياسي التونسي أو وليد المشاحنات الأخيرة بين أطراف الحكم، بل هو سؤال يحيل إلى تفرعات كثيرة، تبدأ من شكل الحكم ونظامه، وتنتهي بتحديد المسؤوليات أو تقاذفها، مرورا بصدام المصالح وضبابية العلاقات.
علي العريض، القيادي في حركة النهضة ورئيس الحكومة الأسبق، في تصريح أدلى به لإذاعة خاصة اعتبر أن نداء تونس هو الذي يحكم ولديه رئاسة الجمهورية والبرلمان ورئاسة الحكومة وأغلبية الوزراء وأكبر كتلة في البرلمان، وعلل أن من يقود الحكم هو النداء منذ يناير 2015 تحت عنوان الشراكة وهو بذلك يتحمل المسؤولية الأكبر.
القيادي في نداء تونس ناجي جلول قال إن “حزب نداء تونس لم يحكم البلاد ولم يطبق برنامجه الانتخابي والحكومة الحالية لا تمثله وبذلك لا يجب تحميله المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد”.
لن نضيف تصريحات أخرى تذهب نفس المذهب في التحلل من الحكم وفي رمي المسؤولية إلى الطرف الآخر، لأنها كثيرة ويرتفع نسق صدورها مع ارتفاع منسوب الأزمات أو في كل منزلة تسوء فيها العلاقة بين الطرفين الحاكمين المتبرئين من الحكم.
دخل حزب نداء تونس مع حركة النهضة في شراكة سياسية لم تكن مستساغة منذ البداية لأسباب كثيرة، منها أنّ كلا الحزبين بنى قسما من خطابه السياسي على عداء الحزب الآخر، وباتت التصريحات النارية المتبادلة من لزوميات المشهد السياسي قبل التحالف المرتجل الذي كانت غايته الحكم ولا شيء أكثر من ذلك. لكن تردّي وضع البلاد بل استمرار السقوط الحر للاقتصاد وما أفرزه من تخبط سياسي واستتباعات اجتماعية، أودى بالتحالف المرتجل إلى منحدر سحيق، واحتاج إعلان الطلاق إلى تصريح من رئيس الجمهورية في سبتمبر الماضي، اعتبر فيه أن التوافق انتهى بطلب من حركة النهضة.
كانت سطور الرئيس التونسي واضحة في تصريحه، وبين سطور التصريح كانت تلوح مشكلة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي تحول الاختلاف حوله وحول حكومته إلى “أم المعارك” بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، بل داخل الأحزاب نفسها. وكان الخلاف حول حكومة يوسف الشاهد معركة مزدوجة، أساسها الأول التأسيس للاستحقاق الانتخابي القادم، والثاني التحلل من النتائج الكارثية لحكم البلاد بشتى حكوماتها.
سؤال من يحكم تونس، الذي فُرض اليوم بعد التصريحات المتبادلة، هو سؤال يحيل إلى الفاعل الحقيقي في حكم البلاد، ويعني كذلك أن الحكمَ كان مشتتا بطريقة لا تسمحُ بتحميل المسؤولية لأي طرف سياسي، وكأن حكم تونس “تفرق دمه بين القبائل”.
وللسؤال أكثر من إجابة، فمن يحكم تونس عند النهضة هو حزب نداء تونس باعتباره شكّل الحكومة ويمتلك أغلبية وزرائها، وباعتباره يمثل الدولة العميقة التي تنتمي إلى “النظام القديم”. وحاكم تونس عند النداء هو النهضة بما وصلت إليه من تغلغل في المؤسسات والهياكل الرسمية، ولأنها تمتلك الأغلبية في مجلس نواب الشعب. أغلبية تتيح للنهضة أن تسقط أي قانون أو أن تفرضه بقوة الآلة التصويتية المنضبطة. أما حاكم تونس عند بقية الأطراف فهو هذا وذاك، وهو ائتلاف النهضة والنداء، وهو أيضا إملاءات الصناديق الدولية المانحة، وهو حب البقاء في السلطة بصرف النظر عن الكوارث المترتبة عن سنوات الحكم أو عقوده.
التبرؤ من مسؤولية الحكم بما يعنيه من اعتراف ضمني بأن النتائج كانت خائنة للوعود الانتخابية الحالمة، هو اعتراف خفي بأن النظام السياسي في تونس شُيّدَ بطريقة مرتجلة صنعت تداخلا بين السلطات وأفرزت ضبابية في المسؤوليات والصلاحيات، وكان البناء الذي تم على عجل يهدف إلى إرضاء أطراف الائتلافات التي تعاقبت على الحكم (الترويكا ثم ائتلاف النهضة والنداء) وتمكينها من حصة من الحكم في محاصصة خفية تحولت إلى منهج لحكم البلاد.
من يحكم تونس فعلا هو الارتجال السياسي والتنصل من المسؤولية وغياب المساءلة والإفلات من العقاب، ومن يسوس البلاد هو المنطق الحزبي الضيق الذي يدير ظهره لمشاغل البلاد ولا يتحرك إلا وفق نسق المواعيد الانتخابية. ولذلك فإن السؤال سيظل قائما ومطروحا عند كل أزمة وعند كل خلاف، من يحكم تونس الآن هو الذي يقوم بخصخصة الأرباح وتأميم الخسائر.
عبدالجليل معالي / كاتب وصحافي تونسي