وجبة من المطبخ اليهودي لا تعرف الطائفية ولا السياسة، وهي تعتبر أكلة خفيفة غنية بالحريرات وسعرها زهيد.
لا تتطور الشعوب ولا تنتعش ثقافتها إلا بتلاقح الحضارات في ما بينها، وإذا اعتبرنا الأكل والغذاء ثقافة، فإن تنوع الأطباق يكون هوية ويعتبر مادة لدراسة تعاقب الحضارات على الشعوب، المطبخ التونسي خير مثال على ذلك إذ نجد البصمة اليهودية في أغلب الأطعمة المالحة كما نجد البصمة الشرقية وحتى البيزنطية على الحلويات، “فالصحن التونسي” وجبة أبدعها اليهود من مكونات بسيطة ومتوفرة في بلدان البحر المتوسط، أخذت شهرة واسعة بين التونسيين وانتشرت حتى في الخارج بين المهاجرين المغاربة.
تونس – يبقى “الصحن التونسي” إحدى أشهر الوجبات الشعبية في البلاد، ليس فقط لأنه يضرب في أعماق التاريخ، لكن أيضا لمكوناته الغذائية المتكاملة وسعره المتاح للفقراء والأغنياء، بل يعتبره البعض الصحن الذي يجمع كل التونسيين على اختلاف طوائفهم ومشاربهم السياسية.
البعض يعتبره خلطة غريبة والبعض الآخر يرى في مكوناتِه انعكاسا لتنوع التونسيين وثقافتهم الغذائية المتنوعة التي اكتسبوها من الحضارات المختلفة التي تعاقبت على البلاد. ولعلّ أكثر ما يجذب الشخص لهذه الوجبة تلك المكونَات المشكّلة بتناسق في طبق امتزجت فيه مختلف الألوان من الخضروات ومكونات أخرى كالبيض والزيت والمخللات، وقد وفرت الطبيعة المتوسطية لهواة الطبخ ومحترفيه كلّ ما يحتاجونه، وللمستهلك كلّ ما يحتاج إليه من الغذاء.
ويتكون الصحن التونسي من السلطات التقليدية والشهيرة والتي لا تكتمل دونها الموائد وأبرزها “الحورية” والتي يتم إعدادها من الجزر المسلوق وبعض البهارات، و”السلطة المشوية” وهي عبارة عن فلفل أخضر مشوي معه بصل وثوم وزيت، و”السلطة الخضراء”وهي أيضا تشكيلة من الفلفل الأخضر والطماطم والبصل يتم تقطيعها في أجزاء متناسبة ليكتمل جمالها بألوانها المختلفة، فكأنها سجاد بربري بألوانه الزاهية.
ومع هذه المكونات تضاف بيضة مسلوقة مع التونة التي كان يتم تصبيرها سابقا في المنازل، قبل أن تختص في إعدادها مصانع تعلبها بأوزان مختلفة.
وتشمل الوجبة كذلك زيت الزيتون، إلى جانب المخللات المتكونة من حبوب الزيتون والليمون وغيرهما مما اعتادت العائلة التونسية على تصبيره من الخضروات، وهو ما يجعل منها وجبة متكاملة تحتوي على الكثير من البروتينات والفيتامينات.
ولا يكتمل الصحن التونسي دون إضافة “الهريسة” وهي معجون أدو دبس الفلفل الأحمر، ذات المذاق الحار والتي تعد اختصاصا تونسيا ليس له مثيل في بقية البلدان.
وتؤكل هذه الوجبة في جميع الأوقات، فهويبلغ متوسط سعر الوجبة الواحدة من “الصحن الصحي” حوالي 4 دنانير (أي ما يعادل 1.4 دولار أميركي تقريبا).
ويصطف العشرات من الموظفين والعمال يوميا أمام محل جلال أحد أشهر الطباخين الذّين يتقنون إعداد الصحن التونسي، ويتفنون في تتبيل مكوناته.
يقول جلال، من داخل محله بباب الخضراء وسط العاصمة، “عملنا عند يهود تونس طويلا وهم أول من أبدع في هذه الأكلة، فتعلمنا منهم إعدادها، أخذنا منهم هذا الفن وأصبح محلنا قبلة للكثير من الزبائن من مختلف الأعمار والشرائح”.
وعن سر الإقبال على محله، يقول، “الزبائن يميزون مكونات الصحن التونسي، ولهم قدرة على فهم أجودها من محل إلى آخر”.
ويضيف “مثلا تجدنا نقدم للزبون زيت الزيتون التونسي الأصيل والذي لا يكتمل هذا الطبق دونه، على عكس البعض ممن يستعملون زيوتا نباتية مع نفس الأسعار لمزيد الربح وهو ما ينفر محبي هذا الطبق منهم”.
ويشرع جلال يوميا، رفقة عماله، في ساعات الصباح الأولى بإعداد سلطات الطبق التونسي بتقطيع الخضروات الطازجة وتتبيلها ببهارات محلية تترك طعمها لدى متذوقيها.
ومن ثمة طبخ البعض منها كالبطاطا والجزر، وتقطيع البعض الآخر كسلطات لتكون جاهزة للتقديم، فيقبل عليها الجميع دون تردد.
وبالعودة إلى تاريخ الصحن التونسي وأصوله، يقول الشيف الطّيب بوهدرة، كاتب عام جمعية مهنيي فن الطبخ في تونس (غير حكومية)، “هذا الطبق ظهر مع مجموعة الأكلات التي كانت تعرض وتباع في الشارع وهي ظاهرة بدأت منذ أوائل القرن الـ16 وأخذت بالتّطور شيئا فشيئا لتعرف في ما بعد رواجا كبيرا وأصبحت الوجبة الخفيفة المميزة للبلاد التونسية”.
واشتهر الصحن التونسي مع يهود تونس الذين امتهنوا بيع “الكسكروت” أي السندويتش.
ولعل أبرز اليهود الذين برعوا في هذه الوجبة، مالينو الذي عرف في سبعينات القرن الماضي وكان صاحب محل وسط العاصمة تونس.
وأبدع مالينو بطريقته الخاصة في صنع “كسكروت التن (سندويتش التونة)”، إلى جانب الصحن التّونسي.
ومن بين اليهود الذين لا يزالون يشتهرون بهذه الوجبة التونسية وبعض الأكلات الشعبية الأخرى، لولوش جاكوب الذي يدير مطعما شعبيا في ضاحية حلق الوادي، الذي يقول “هذا ليس مطعما بالمعنى التقليدي، هو مشروع ثقافي، بإمكانك ان تأتي لتذوق الأكلات اليهودية التونسية الأصيلة والاستماع لبعض الأغاني التي انقرضت”.
ويضيف لولوش الذي يضع لافتة على مطعمه ترحب بالزبائن، باللغات الأربع، العبرية، الإنكليزية، الفرنسية و العربية، “أن الأكلة التونسية استفادت من تلاقح الحضارات والتعايش بين المسلمين واليهود القادمين من إسبانيا أو غيرها من دول العالم. هذا التزاوج ساهم في تنوع الأكلات التونسية”.
ويعتبر الشيف بوهدرة أنّ الصحن التونسي أكلة يقبل عليها الجميع على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، بفضل اكتمالها الغذائي وسعرها الذي هو في متناول الجميع.
ولأن الطبخ والمأكولات التقليدية يعدان جزءين هامين من ثقافة الشعوب ومؤشرين على هويتها، فإن لطبق الصحن التونسي وقعا خاصا لدى التونسيين.
ويقول بوهدرة إن هذا الطبق يلخص ثقافة التونسيين الغذائية ويعكس هويتهم إلى جانب أطباق أخرى.
ويرفض الشيف التونسي بشدة فكرة تطوير هذا الطبق وتطويعه، بالقول إن “أي سبيل لتطويره سيفقده حتما خاصيته وجماليته”، ويذكر أن البعض حاول ذلك ففشل من خلال إضافة بعض أنواع الجبن إليه ففقد خصوصيته.
ويضيف “حتى في بعض المطاعم الفاخرة، لا يجب أن يفقد شكله الأوّل الذي عرفه به التونسيون منذ زمن بعيد..فتنوع مكوناته يجعلُه لا يُمل من قبل المقبلين عليه”.
وسافرت تلك الأكلة مع عدد من يهود تونس الذين هاجروا إلى فرنسا مثلا، فتجدها في أشهر أحياء باريس، وتباع بأسعار مضاعفة قد تصل إلى 10 يوروهات في الكثير من الأحيان.