في 2025 ونحن نعيش في أعقاب أكثر من عقد من الثورة التي رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، نعود للتساؤل: هل تحققت العدالة الاجتماعية التي طالما حلم بها المواطن التونسي؟ وهل استطاعت حكومات ما بعد الثورة أن تلبي تطلعات الشعب الذي عانى من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة؟ أم أن العدالة الاجتماعية ما زالت مجرد شعار يرفع في الخطابات دون أن يتجسد في الواقع؟ إن السنوات التي مرت كشفت عما هو أعمق من مجرد شعارات، فالشعب التونسي ما زال يعاني من التهميش والفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب تغييرات جذرية تشمل القوانين والسياسات في وقت نعيش فيه واقعا مريرا نتيجة غياب التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
العدالة الاجتماعية ليست مجرد شعارات ترفع في المناسبات السياسية، بل هي ضرورة وجودية تتطلب تغييرا جذريا في القوانين والأنظمة التي تحكم المجتمع، وفي تونس على الرغم من رفع شعارها منذ 17 ديسمبر 2010، فإن الواقع يفرض علينا الاعتراف بأن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لا تزال مستمرة بل زادت من تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، اذ لابد من أن يكون هناك توازن حقيقي بين الحقوق والواجبات حيث يشعر المواطن بأن حقوقه محفوظة في كافة المجالات وأن لديه فرصا متساوية للوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والعمل.
ومن المؤكد أن الحديث عن العدالة الاجتماعية يتطلب مراجعة شاملة للنظام القانوني والسياسي في تونس الذي لا يزال بعيدا عن تحقيقها بل يساهم في تعزيز امتيازات النخب على حساب الأغلبية، وذلك يستدعي مراجعة شاملة للقوانين التي تخدم مصلحة الأغنياء وتزيد من معاناة الفئات المهمشة؛ إذن فان من أجل ارساءها على أرض الواقع لابد من أن نبدأ أولا بتغيير القوانين والأنظمة القانونية التي تجعل من العدالة الاجتماعية مجرد شعار بعيد المنال.
هذا وتعد القوانين التونسية بما فيها القوانين المالية والضريبية من أبرز العقبات أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، فقانون المالية لسنة 2024 يمثل نموذجا صارخا لهذه السياسة التي تكرس الفوارق الطبقية، ففي الوقت الذي تتزايد فيه الأعباء على المواطن التونسي البسيط نجد أن السياسات الضريبية لا تزال تدافع عن مصالح الطبقات الثرية بل تساهم في تعميق الهوة بين الفئات الاجتماعية، هذا القانون يفرض ضرائب إضافية على الطبقات المتوسطة والفقيرة دون أن يقدم حلولا حقيقية للتنمية أو يوفر آليات للحد من الفقر اذ إنه في جوهره يعكس الفشل الحكومي في تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية.
ومن جهة أخرى، التشريعات الاقتصادية في تونس تصاغ بطرق لا تضمن توزيعا عادلا للثروات بل تركز على منح امتيازات للطبقات القادرة والمستفيدة من الأوضاع الراهنة مما يؤدي إلى تقويض ثقة الشعب في النظام السياسي والقانوني.
ولا تتحقق العدالة الاجتماعية إلا عندما تهتم الدولة بالقطاعات الحيوية التي تؤثر بشكل مباشر في حياة المواطن كالنقل، الصحة، التعليم، الصناعة، الفلاحة، كلها قطاعات أساسية يجب أن تكون في قلب أي سياسة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن في تونس تتعرض هذه القطاعات للتجاهل المتعمد والإهمال المستمر من قبل الحكومات المتعاقبة.
قطاع النقل في تونس يعاني من إهمال شديد وسوء إدارة ما يجعله في حالة يرثى لها، فالنقل العمومي هو مرآة لواقع الحياة اليومية للمواطن حيث يشهد تدهورا متزايدا في وسائل النقل العامة مثل القطارات والحافلات التي تتكدس وتفتقر إلى الصيانة مما يزيد من معاناة المواطنين، كما وان غياب استثمارات حقيقية في هذا القطاع الحيوي يعكس فشل السياسات الحكومية في تحقيق العدالة الاجتماعية، ففي المناطق الريفية يبقى النقل من أبرز أسباب تهميش هذه الفئة التي لا تصل إلى فرص العمل والتعليم.
كما وان قطاعي الصحة والتعليم هما الركيزتان الأساسيتان لتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن اليوم لا يزال المواطن التونسي يعاني من نقص الأدوية وتدهور البنية التحتية للمستشفيات بينما لا يزال قطاع التعليم يعاني من ضعف في المناهج الدراسية وسوء ظروف التدريس، اذ ان عدم القدرة على الوصول إلى خدمات صحية جيدة وعدم توفر فرص التعليم العالي يساهم في تعميق الفوارق بين الفئات الاجتماعية وهو ما يجب أن يتغير في المستقبل القريب.
من جهة أخرى، كانت الصناعات الوطنية والفلاحة من الدعائم الأساسية للاقتصاد التونسي، لكنها الآن تعاني من الركود والتراجع بسبب سوء الإدارة وقلة الدعم الحكومي، فالفلاحة التي كانت تشكل مصدر رزق رئيسي للمناطق الريفية تواجه العديد من التحديات مثل شح الموارد المائية وتراجع الدعم الحكومي، بينما الصناعات الوطنية التي ازدهرت في الخمسينات أصبحت اليوم مجرد ذكرى في ظل سياسات غير مدروسة، لذا فإن إعادة إحياء هذه القطاعات يتطلب سياسات استثمارية جديدة تركز على التحديث والتطوير مع ضمان توفير الدعم اللازم للفلاحين والمستثمرين في القطاع الصناعي.
ولعل أول الحلول لتحقيق العدالة الاجتماعية هو إصلاح القوانين والأنظمة التي تخدم مصلحة الأغنياء والنخب وتجاهل الفئات المتوسطة والفقيرة، اذ يجب أن يتم تبني قوانين ضريبية أكثر عدالة بحيث تتحمل الطبقات العليا مسؤولياتها في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي مع ضرورة تبني استراتيجيات استثمار تهدف إلى تحسين مستوى معيشة المواطن البسيط وتعزيز التنمية المستدامة في القطاعات الحيوية.
هذا ويعد الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل النقل والصحة والتعليم والصناعة هو خطوة أساسية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، اذ يجب أن تكون هذه القطاعات أولوية في السياسات الحكومية ويجب توفير استثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، فتحسين قطاع النقل العمومي، تجديد المستشفيات، وإصلاح النظام التعليمي، كلها خطوات تساهم في تحسين حياة المواطن وخلق بيئة اجتماعية متوازنة.
ولا ننسى ان غياب المحكمة الدستورية يعد من أكبر العوائق التي تواجه تحقيق العدالة الاجتماعية في تونس، اذ ان إن إنشاءها يجب أن يكون أولوية في 2025 حيث ستلعب دورا هاما في ضمان احترام الدستور وتوحيد الرؤية القانونية وتعزيز توازن السلطات، مما سيضمن تحقيق العدالة الاجتماعية على أرض الواقع ويساهم في حماية حقوق المواطن التونسي.
كذا لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في تونس دون محاربة الفساد من الجذور، فإصلاح النظام القضائي وتعزيز الشفافية في التعاملات الاقتصادية سيساهم في بناء دولة القانون ويقلل من هيمنة اللوبيات الاقتصادية والسياسية، كما يعيد الثقة في المؤسسات الحكومية فمحاربة الفساد في كافة أشكاله هو جزء لا يتجزأ من تحقيق العدالة الاجتماعية.
أخيرا، إعادة بناء الإنسان التونسي لابد من أن يكون من خلال تعزيز ثقافة العمل والإبداع والحد من ثقافة الاتكال على الدولة، اذ يجب أن يتم تشجيع المواطنين على الإبداع والعمل الجماعي وتعزيز روح الانتماء الوطني والعدالة بين الجميع.
في الختام، العدالة الاجتماعية ليست مجرد هدف بل هي ضرورة وطنية لخلق تونس جديدة في 2025، وتحقيقها يتطلب إصلاحات جذرية في النظام السياسي والقانوني والاقتصادي مع وجود الإرادة السياسية القوية التي تترجم إلى سياسات واضحة على أرض الواقع، ولن يكون الطريق سهلا ابدا ولكن الشعب التونسي لا يمكنه الاستمرار في العيش في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة وهو يستحق تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما حلم بها.