تغيير الرأي والمعتقد في الدول الديمقراطية مسألة يكفلها القانون، أما حالات التشيع في العالمين العربي والإسلامي، فليست مجرد انتقال من مذهب نحو آخر، لكن الأمر يتعلق باستقطاب سياسي، تتزعمه إيران ـ عبر إغراءات كثيرة ـ وترمي من ورائه إلى إفراغ المتشيع من انتماءاته الوطنية وخصوصياته الثقافية ليتجه نحو آلة أيديولوجية تطحن جميع ضحاياها وتحولهم إلى جند في خدمة مصالحها.
شكّلت الطائفة الشيعية كعقيدة دينية تحمل قدرا كبيرا من الاستقلالية عن أهل السنّة، جزءا من مكونات النسيج المجتمعي في معظم الدول العربية، كما أن النشاط الدعوي الشيعي الذي يقتصر على الجهود الفردية المعزولة ليس حدثا طارئا بمعناه الديني، لكنه اتخذ أبعادا أخرى بعد الثورة الإيرانية سنة 1979 والتوجه نحو “تصدير الثورة”، فانتقل مفهوم التشيّع من معناه الديني نحو السياسي المواكب لمسيرة إيران كدولة ثيوقراطية لها أهدافها التوسعية.
ما قدمته إيران من نموذج ديني سياسي مؤثر في الساحة الإقليمية والعالمية شكّل حالة جاذبة للكثير من القطاعات، فكان التأييد لإيران في سياساتها واعتبار مشروعها الذي جاء به الخميني إحياء لفكرة الدولة الإسلامية وركنا من أركان المشروع الحضاري الإسلامي في مواجهة المشروع الصهيوأميركي والذي ازداد أثره عقب انتصار حزب الله في فكرة المقاومة ليشكّل خطوة واسعة باتجاه نشر التشيّع بمعناه السياسي، ومتابعة النشاط الدعويّ والتسلل الناعم في معظم الدول العربية مستغلة أزماتها البنيوية وإشكالية علاقة الدولة بالهوية الوطنية وتطور المجتمع.
وانعدام بلورة المشاريع التنموية الشاملة وبناء منظومة قانونية تحمي الحقوق القائمة وتضمن الاستقرار في العلاقات الاجتماعية، واستبداد السلطات وقمعها لكافة المشاريع المدنية والعلمانية، كانت أحد المداخل التي تساهم في تكريس الظواهر الدينية ومنها التشيّع.
بعد سقوط حكم البعث في العراق، أصبحت إيران قوّة إقليميّة لها نفوذها الطاغي من خلال مؤسساتها الخيرية والعسكرية في عدّة دول في المنطقة فتوجهت الأنظار نحو الخطر الإيراني العسكري مع التجاهل النسبي للخطر الأيديولوجي الذي تعوّل عليه إيران كثيرا وتعمل على إيجاده من خلال كسب الود العربي الشيعي بدفعه لعجلة الحركة المطلبية للشيعة “المظلومين” بشكل مستقل عن بقية المكونات.
تمييز الشيعة طائفيا ومساندتهم، وتكثيف الجهود في نشر التشيّع وتأمين غطاء مؤسَسِي ديني سياسي، يرسم الخطط ويضع الاستراتيجيات، هذا المسعى لخلق بؤر طائفية مغلقة تجلّى خطره مع الانتفاضات الشعبية في 2011 إذ لم تعد إيران تخفي دعمها المباشر للشيعة ولنشر التشيّع بعناوين صريحة في ظل الانفتاح السياسي والإعلامي واتباع مداخل مختلفة، بدءا من تلبية المصالح الشخصية للمتشيعين الجدد كزواج المتعة الذي يبيحه علماء الشيعة، تأمين فرص عمل وتعليم، الاستجابة للإغراءات المالية المباشرة وغير المباشرة، وليس انتهاء باللعب على وتر الرفض والخوف من الحركات الجهادية في مناطق النزاع سوريا والعراق.
ردود الأفعال والنفور مما تمارسه الحركات الجهادية من بشاعات القتل والتغطية المباشرة لهذه الارتكابات وحالة التهويل والتعميم لصفة الإرهاب على الإسلام “السنيّ” قابلها انجذاب للمشروع الشيعي وفتح باب التشيّع لدى العديد من القطاعات خصوصا من الشباب، كما قدّم استهدافها للأقليات الدينية مدخلا عريضا للجوء إلى التشيّع لطلب الحماية والدعم.
ورغم أن إيران هي الدولة الأكثر تورّطا في حروب الوكالة في العديد من البلدان، لكن سياستها الراديكالية وخطاب المقاومة ومحاربة الاستكبار وما يضخ من أموال ومغريات في مقابل غياب مشروع سنيّ أو علماني منافس وقوي سمح لها باستغلال الظروف المختلفة لتوسيع دائرة التشيّع ومتابعة النشاط الدعوي وتأسيس جمعيات وحسينيات كحقوق تندرج ضمن إطار الحريات الدينية، وبالتالي فرصيدها الشعبي الذي بنته سابقا في معظم الدول العربية انتقل من الحالات الفردية الذاتية إلى قاعدة شعبية قابلة للتعبئة والاستجابة للمطالب الإيرانية والدفاع عن مواقفها وتبريرها.
وأبرز الإشكاليات التي تطرح حول المتحولين دينيا أو مذهبيا نحو التشيّع تكمن في مسألة الولاء السياسي والديني، فهم ليسوا بمعزل عن اعتناق أفكار سياسية قد تصطدم مع ما يفرضه الانتماء إلى الدولة الوطنية، وتتصل بالمذهب الشيعي ذاته وأخذه بمبدأ المرجعيات التي يتبعها معظم المتشيعين في كل مكان.
مهما تكن مداخل التشيّع، فانتقال الإنسان من دين أو مذهب إلى آخر لن يكون له أثره البالغ وهو حق من حقوق الإنسان في دول حداثية ثبّتت ركائزها المجتمعية على قاعدة المواطنة، واستطاعت خلق أطر سياسية مشتركة تبعد الفعل السياسي عن البيئة الدينية، أو أحزاب سياسية عابرة للحدود التي يرسمها الانتماء الديني.
وهذا الأمر تفتقده كافة الدول العربية وبالتالي فالمشروع الأيديولوجي الإيراني وآليات الترويض للمتشيعين الجدد، سيكونان خطوة ينتقلون فيها من ضياع الهوية الوطنية نحو نزع الانتماء إلى دولهم والسير حسب المرجعية العقائدية والسياسية للدولة الإيرانية كما هو مخطط لها.
هوازن خداج