أحيت تونس من خلال المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بالكاف مؤخرا الذكرى الثانية والستين لوفاة الفنانة الكبيرة صليحة ومواكبة لهذا الحدث يسعدنا نشر بورتريه حول مسيرة هذه الفنانة من امضاء الأستاذ نعمان الحباسي المندوب الجهوي للشؤون الثقافية بالكاف.
الفنانة صليحة زهرة أينعت وفاح اريجها في وهج الاغنية التونسية الخالدة
بقلم:نعمان الحباسي/أستاذ أول للتنشيط الثقافي - الكاف
كانت الفنانة التونسية" صليحة" و لا تزال نغمة معبرة و أغنية صادحة رددها جيل و شدا بها عصر فسبحت في بحار النغـم و تراسيب سواكن القلوب وملأ الافق مزيجا من السحر و الاساطير و تفاصيل الحياة....هي ذلك الكائن المتفرد من نبت ربوع ولاية الكاف بالشمال الغربي التونسي لتختزل في صوتها الشادي تفاصيل سفر مليء بالفن و الانغام و العبقرية تشرعها حلما و أملا يقودها الى ضفتي الآتي.
و"صليحة" هي عمق الأغنية التونسية و ثوابت المقام الأصيل و إبتداع الطبوع التونسية المزدانة بعبق مؤسسيها إذ عاشـــــت و عايشت التاريخ من أبوابه الكبرى رغم قلة حيلتها و صغر تجربتها فهي أصـيلة ولاية الكـاف التي توفيت بها في سن نــاهز 44 سنة ... هي كائن متفرد أثرت فــي الموسيقى التونسية و الموسيقى المغاربية و العربية على حد السواء.
و"صليحة بنت براهيم بن عبد الحفيظ" والتي يحلو للبعض تسميتها بـ"صلوحة" خطت خطواتها الاولى في العاصمة مع فرقة الراشدية آنذاك والمتكوّنة من حفّاظ المالوف و مطربي الألباب و موسيقى الحياة.
هي حكاية حياة طفلة بسيطة انتقلت رفقة شقيقها الى العاصمة التونسية لتكلّل بقصة نجاح ساهمت في خلقها و تأمين مراحل تقدمها و تتويجها مجموعة "تحت السور " في الموسيقى و الألحان و الإطناب في علوّ الذائقة و ُرقيّ المقام.
و"صلوحة" التي غادرت مسقط رأسها "نبر" بعد هجران والدها لها استقرّت بنهج المرّ في تونس حيث سكنت في 1927 منزل محمد باي ولد الناصر باي أحد أهم العوامل و العناصر التي صنـعت و صاغت حياة المطربة الخالدة فبؤس الأمور حلوها الذي أسكنها جوار الفنانين و المثقفين الذين يؤمّون فضاء محمد باي للسهر و الترف فأصبح علامة ارتقاء و تعليم لها و أفردها بيئة فنية مطلقـة تعيش معها النغم وتعايشه ثم انتقلت لفضاء أرحب و مجال فني أثّر في مسيرتها و عبّق رحلتها و زادها زادا معرفيـا وموسيقيا إثر ملازمتها للفنانة "بدرية "بمنزلها آنذاك حيث عاشت مطربة عصرها "بدرية" التي كانت من ألمع الأصوات و أرقاها حينها لترحل بعدها و بعدما تشبعت بتجربة رائدة بملازمتها لثلّة من الفنانين و أهل الثقافة و محبيها اذ ساقها رحيل "الطرفة"بعدما استمع المحامي المعروف حسونة بن عمار لصوتها وهي تشدو من نافذة "البرمقلي" بأغنية "بالله يا حمد يا خويا" التي أثارت دهشة حسونة و ألزمته الشك و الحجة ليستفسر الأمر لدى الفنانة بدرية بأن صوتها أعذب و أرقى صوت في الصباح على عكس غنائها في الليل وهي حجة ألزمت الفنانة "بدرية" على الاستغناء عن صليحة وهي صدفة ستكون عودا على بد للمحامي حسونة بن عمار و فرصة لرحلة أخرى لمطربة امتدت أواصرها أجزاء المغرب العربي فالتقت الفنان الليبي و الملحن "بشير فحيمة " الذي مثل علامة فارقة في مسيرتها و صنع مجدها و فتح لها ابواب النجاح و الشهرة ليبدأ مشوار خطوة الألف ميل إثر تقديمها ضمن تدشين الإذاعة التونسية سنة 1938 على أنّها أحد الاصوات الشابة المميزة فكانت النقطة الفارقة لتطلق العنان لفنّانة غدت نغما و وترا سبحت له الحناجر.
الكل شهد ميلاد الإذاعة التونسية و تابعوا بشغف مولود البركة و صناعة الفن و الثقافة عبر أمواج الاثير كانوا يترقبون و ينصتون بتباهي أعمدة الثقافة التونسية في ذلك الوقت و هي تصدح وتغذي ذاكرة اليوم و الغد و تبعث رسائل الحياة لأهل الدار ليلتقي حسونة بن عمار ذاكرة الصوت و ويستدعي خيال لحظة النشوة و صدح صوت تحت "البرمقلي" فأدرك دونا عن غيره ميلاد أكبر و أعظم ميلاد فنانة ستكون عنوانا للاغنية التونسية لتتماهى معها كل التعبيرات الفنية ومن حينها سارع المحامي المثقف إليها قبل أن تسافر فنانتنا الى طرق أخرى وحملها على أجنحة الحلم لتكون ضمن فرقة الراشدية حيث إستمع لها أهل البيت و على رأسهم شيخ مدينة تونس و مدير الراشدية آنذاك " مصطفى سفر" الذي لم يتوارى في إحتضانها و خصّها بمنحة مقابل بقائها ضمن أعرق الفرق التونسية وأولّها و أجودها صناعة للفن و الرقي و تمثيلا للمقامات والطبوع التونسية الخامة فإزدانت الرحلة و إبتدأ المشوار.
ان ميلاد "صلوحة" الذي كان مطلع القرن العشرين عاود البدء و أعاد النشأة و سافر بنا و أسمعنا صوت الحياة و التف صوتها الصادح مغناة الطبوع التونسية الأصيلة و أغاني الطرب الأصيل حيث حذت حذو الكبار و جاورت مهد الأولين و أكــبر الملحنـــين و الشـعراء و أعظمــهم لتزهر وتفوح رحلة المشقة التي كابدتها "صلوحة" ريح ثراها بقرب العظماء مثل الشيخ "خميس ترنان و صالح المهدي و محمد التريكي".
و تعد "صليحة "سيدة الغناء في بلادنا إذ كم شربت الاجيال من كأس فنها كزهرة أينعت و فاح أريجها فتلقفته الامصار عنوانا راسخا للانبهار و الدهشة و العجب و نصبوها على عرش الطرب الاصيل تبهرهم بفنها و تغزو مشاعرهم بصوتهـا و تفيض على أحاسيسهم بوجدانها.
هكذا هي "صليحة" تتحكم في محبيها و تتسلط على أذواقهم و تقود الراغبين إلى كؤوس الهواء و الوجد إذ غنت وغدى طيف غنائها سابحا معبرا للبلاد وفي أمصار هذا الكون الذي غنى معــها وتغنى بها صلوحة ربي "عطاها كل شيء بكمالو" نغما غنته و أطرب القلوب عند سماعها فتغنى بها العرب و إجتمعوا حولها و تعطّروا لعبيرها و نعموا ألحناها فغنت لها وردة التي أدركت حلاوة المقام التونسي و صعوبة آدائه وكذلك الفنانة القديرة ماجدة الرومي التي تغنت بصليحة وغنت لها في كل محفل و كل إحتفال لتقف عرفانا و إعتزازا بالأغنية التونسية و لتحاكي كل جميل و كل صادق صاغ و مهّد و قدّم صليحة في أبهى حلّة ليقدّم من خلالها ثراء الاغنية التونسية و علوّ رايتها كما غنّى لها العديد من الفنانين العرب و التونسيين الذين أحييوا فينا الإعتراف بجميل الفن وعمق الأغنية التونسية و مدى تأثيرها و تأثّرها بحياتنا.
وقد بلغت أهاجيز صليحة مسامع كوكب الشرق في زيارتــها لتونس فأبدت شغفها لرؤيتها و أطنبت في وصف صـوتـها و حسن آدائها ذلك ان فنانتنا إستساغت كل الالحان و كل الكلمات و لم تقتصر على الشعبي و الالحان الخفيفة بل غنت كل ما قدّم لها و غنت قصائد يصعب ترديدها نثرا لعمق كلماتها و غزارة معانيها فكأنّ كل ما يكتب كان على مقاسها و كل ما لحّن كأنّه برمج لطبقة صوتها في حين هذه هي ميزة الكبار ،فصليحة هي كل ذلك الزخم الفني المخضّب بأسلوب متفرد يحاكي التاريخ و يتماهى مع الجغرافيا ليلتقيا في لحن خالد زاده زخرفا شذى هذه الربوع.
هكذا هي"صلوحة" التي غنت تونس و أغنت تونس سيل فنها و عمق حسنها فقد لبست الطبوع التونسية و ألبستها للعرب سواء و خاطت تفاصيل حياتها مسيرة فنانة شرّفت وطنا.
ولدت صليحة، واسمها الحقيقي صلّوحة الحنّاشيّة، سنة 1914 بدشرة نبّر من قرى ولاية الكاف حاليا وتوفيت في 25 نوفمبر 1958.