اختر لغتك

ارتفاع منسوب الجريمة في تونس هو مشهد للفزع الصامت

ارتفاع منسوب الجريمة في تونس هو مشهد للفزع الصامت

لم يعد ارتفاع منسوب الجريمة في تونس مجرد أرقام تتردد في نشرات الأخبار أو عناوين تقارير الأمن، لقد أصبح إحساسا ثقيلا في الهواء يكاد يختنق به المارة دون أن يعلنوا ذلك صراحة القتل، الاغتصاب، السرقة، الابتزاز، وغيرها من الجرائم لم تعد مجرد حوادث منفصلة لكنه باتت نسيجا يوميا يغلف حياة الناس بقلق لا يعلن عن نفسه إلا بارتجافة خفية أو نظرة مرتابة في العيون.

السؤال الذي يفرض نفسه دون مواربة هل تحولت الجريمة إلى قاعدة وأصبحت الحياة الشريفة هي الاستثناء النادر؟ وأين يبدأ الخطأ؟ أفي يد الجاني فقط أم في صمت الجماعة التي ألفت الخراب حتى نسيت معناه؟

منذ سنوات كان خبر قتل أو اغتصاب يهز الضمير العام، يثير الذعر والدهشة والغضب، أما اليوم فما أكثر الأخبار وما أبرعنا في التعامل معها ببرود يكاد يكون إقرارا ضمنيا، فمن الذي قتل دهشتنا الأولى؟ من الذي روض مشاعرنا حتى صارت ترى الدم ولا ترتجف؟

اذ أن أخطر ما يهدد مجتمعا ما ليس الجريمة في حد ذاتها إنما الاعتياد عليها، فحين يفقد الناس قدرتهم على الغضب المشروع، حين تصبح الجريمة مجرد خبر عابر بين فواصل الإعلانات يصبح كل شيء مهيأ للانهيار القيم، والقوانين، والمعاني العميقة للعدالة.

وفي تونس اليوم، ترتكب الجرائم تحت أعين الجميع ولعل الكثير منها يتم تصويره، تداوله، تحليله لكنه لا يثير إلا جلبة فارغة سرعان ما تخفت دون أثر، أليس هذا دليلا على أننا نشهد ما هو أعمق من الجريمة الفردية؟ أننا نعيش انهيارا جماعيا في الحصانة الأخلاقية؟

جرائم القتل تتزايد وأحيانا تحت دوافع تافهة إلى حد الجنون، الاغتصاب لم يعد دائما فعلا مستترا يرتكبه المختلون لكنه أصبح أحيانا فعلا عاما يتعاطى معه البعض بقدر من التسامح الاجتماعي المشبوه، والسرقة لم تعد جريمة نخجل من ارتكابها لكنها اصبحت سلوكا "مبررا" في نظر البعض تحت شعار الفقر أو الظلم أو الحاجة، فكيف يكون للفقر عذر إذا كان يترجم إلى إزهاق الأرواح؟

وكيف تتحول الحاجة إلى مبرر لانتهاك الأعراض؟ ومن الذي كسر الحاجز بين الحق في الغضب والحق في الجريمة؟

من جهة أخرى تقف المؤسسات الأمنية والقضائية أمام معركة ليست متكافئة، فحين يتكاثف العنف كظاهرة اجتماعية لا تعود المسألة مسألة مطاردة مجرمين فقط إنما تتحول إلى سؤال أعمق كيف يمكن للدولة أن تفرض سلطتها الأخلاقية لا سلطتها القانونية فقط؟ علما وان العدالة الحقيقية لا تقوم على العقاب فحسب، إنما على زرع الخوف من الجريمة قبل ارتكابها وهذا الخوف المقدس الذي يجعل الفرد يتردد، يرتجف، أمام فكرة الظلم ويكف يده لا خوفا من العقوبة بل من فقدان ذاته كإنسان.

وفي ظل تفشي الجريمة بهذا الشكل من حقنا أن نسأل أين دور المدرسة حين لا تخرج إلا شهادات بلا قيم؟ أين دور الأسرة حين تتحول إلى قوقعة فارغة من التربية؟ أين دور الإعلام حين يغرق في الإثارة وينسى التربية على المسؤولية؟

أسئلة تتوالد من رحم الأسئلة، من يقتل أكثر الذي يطعن بسكين أم الذي يقتل بالسكوت؟ من يسرق أكثر الذي ينهب جيبا أم الذي ينهب روحا بالأكاذيب والخوف؟ من يغتصب أشد الذي ينتهك الجسد أم الذي يغتصب الحق في الحياة الكريمة؟

ليس هذا النص دعوة للتشاؤم لكنه صيحة نذير، ما يزال في يدنا أن نوقف النزيف، أن نعيد للإنسان حرمته، أن نصنع من جديد جدارا أخلاقيا يمنع تمدد الوحشية، لكن البداية لا تكون بسن القوانين وحدها ولا بنصب مزيد من الكاميرات لكن بالعودة إلى الأساس، إلى معنى الإنسان، إلى احترام الحياة بوصفها قيمة عليا لا مجال للتفريط فيها؛ فكل جريمة تمر بلا عقاب صارم، كل صمت عن انحراف أخلاقي، كل تساهل مع المجرم بدعوى الرحمة هو مسمار جديد في نعش مجتمع يتآكل تحت أنظار أبنائه.

فهل سنكون شهودا أم شركاء؟ وهل نملك بعد ما يكفي من الإرادة لنختار؟

آخر الأخبار

نجوى المنستيري تعود لرئاسة جمعية المبدعات العربيات بسوسة وتنظم الدورة الجديدة

نجوى المنستيري تعود لرئاسة جمعية المبدعات العربيات بسوسة وتنظم الدورة الجديدة

"مفتاح"... حين تشتعل الكاميرا بنبض فلسطين وتُسقط أسوار التهجير!

"مفتاح"... حين تشتعل الكاميرا بنبض فلسطين وتُسقط أسوار التهجير!

ارتفاع منسوب الجريمة في تونس هو مشهد للفزع الصامت

ارتفاع منسوب الجريمة في تونس هو مشهد للفزع الصامت

في عيد الشغل: كرامة العمال ورؤية الحرية من فلسطين إلى تونس!

في عيد الشغل: الإقلاع نحو الحرية وكرامة العمال من تونس إلى فلسطين

الزهور تحتفي بالتراث والابتكار الفني: أربعة أيام من الإبداع والانفتاح الثقافي

الزهور تحتفي بالتراث والابتكار الفني: أربعة أيام من الإبداع والانفتاح الثقافي

Please publish modules in offcanvas position.