شكل فشل المفاوضات حول الآليات الفنية اللازمة لبناء سد النهضة تحديا جديدا أمام الحكومة المصرية، وتزايدت مخاوف من التأثير على الحصة المائية التاريخية من نهر النيل، بما يدفع البعض إلى التساؤل بجدية عن إمكانية التصعيد العسكري وهل يمكن أن تجبر مصر على رفع سلاحها في وجه التعنت الإثيوبي، فيما يرى آخرون أن الخطوة القادمة ستكون اللجوء إلى التحكيم الدولي، دون استبعاد التلويح باستخدام الحل العسكري بغطاء سياسي يوفر للقاهرة الحق في الدفاع عن حقها في مياه النيل وما يعنيه ذلك من دفاع عن أمن قومي وسط تقارير تتحدث عن شبح عطش يخيم على مصر بسبب سد النهضة الإثيوبي.
القاهرة- لم يجد الصحافي في شبكة بي بي سي بيتر شوارتزتاين وصفا أكثر دلالة من “وفاة النيل” ليعبر به عن خلاصة تحقيق أجراه خلال جولة بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن ما يعانيه أطول أنهار العالم من أمراض بيئية وأزمات سياسية قد تنتهي بنهر النيل وواديه الأخضر الجميل في قلب صراع مسلح.
جاء نشر التقرير البريطاني بالتزامن مع إعلان مصر فشل الحوار مع إثيوبيا حول سد النهضة، وأحاديث في وسائل الإعلام الإثيوبية عن بناء مصر لقاعدة عسكرية مصرية في إريتريا، في إشارة إلى احتمال تطور الأزمة إلى تصعيد عسكري بسبب سد النهضة.
وأضحى الحديث عن اندلاع نزاعات إقليمية عسكرية بين دول المنبع والمصب أمرا مطروحا بشكل أكبر بعد النتيجة السلبية التي خرجت بها المفاوضات الأخيرة التي عقدت في القاهرة بين مصر وإثيوبيا وفشل الدولتين في حل الأزمة بعد رفض أديس أبابا تحديد صيغة نهائية لملء المياه المخزنة خلف سد النهضة بما يضمن سلامة أمن مصر المائي ويجنب المنطقة أي تصعيد تكون نتيجته وخيمة.
هل ستحارب مصر؟
أكدت وزارة الري المصرية أن الخلافات مع أديس أبابا تتركز في كمية المياه المخزنة خلف السد الجديد وفترة ملء الخزان، لأن القاهرة تخشى من تأثيره على إمداداتها من المياه، الأمر الذي قد يؤدي إلى الإضرار بجزء من أراضيها الزراعية، مشددة على أهمية تخفيض السعة التخزينية للسد والمقدرة بـ74 مليار متر مكعب من المياه.
ويرى البعض من المراقبين أن الخيار الأمثل لحل الأزمة تأجيل إثيوبيا لعملية ملء خزان السد إلى العام القادم بعد الانتهاء من التوصل إلى آلية تنسيق مناسبة بين الجانبين، ما يجنب الجميع مشكلات حادة، لكن أديس أبابا ترفض هذا الاتجاه وتأمل أن تنتج كهرباء بحلول 2018.
وبالتالي، أصبحت خيارات مصر مفتوحة لمعالجة أزمة السد بعد مفاوضات استمرت نحو 6 سنوات ولم تنته إلى نتيجة مرضية. ووسط الغضب المصري المعلن، يتحدث كثيرون عن لجوء القاهرة إلى استخدام الخيار العسكري لوقف استكمال بناء سد النهضة.
يستند المتحدثون في هذا السياق إلى حصول مصر على معدات عسكرية متطورة، بحرية وجوية، من ذلك شراء سفينتين فرنسيتين حربيتين بعيدتي المدى من طراز ميسترال وامتلاك صواريخ بعيدة المدى، وهو ما يمثل فائضا كبيرا في القوة المصرية.
ويضيف مراقبون أن لدى مصر وجودا عسكريا بحريا عند مدخل البحر الأحمر وبعض الدول القريبة منه، يمكن أن تستخدمه عند اللزوم لإجهاض مشروع سد النهضة. ودار في شهر أبريل الماضي حديث عن بناء قاعدة مصرية في إريتريا الجارة الحدودية لإثيوبيا ونفت القاهرة هذه الأحاديث.
لكن، عاد الجدل مجددا على ضوء فشل المفاوضات حيث ذكرت سائل إعلام إثيوبية أن مصر تمتلك قاعدة عسكرية في إريتريا، وتعدها لعمل عسكري كبير ضد سد النهضة. وسألت “العرب” بعض المصادر المصرية عن حقيقة هذه القاعدة، ولم تنف هذه المصادر ما يتردد بشأن هذه المعلومة لكنها في نفس الوقت لم تؤكدها.
وقالت المصادر إن “من حق مصر امتلاك كل أنواع القوة للدفاع عن أمنها القومي وتشييد قواعد عسكرية في أي مكان متاح لها، كأداة ردع، وغير مستبعد استخدامها للهجوم في حال التأكد من وقوع أضرار فادحة، وهناك دول عربية وغير عربية تمتلك قواعد في القرن الأفريقي”.
ونقلت صحف إثيوبية وسودانية عن التنظيم الديمقراطي لعفر البحر الأحمر الإرتري المعارض أن “أسمرة أعطت مصر الضوء الأخضر لبناء قاعدة عسكرية في جزيرة نورة بأرخبيل دهلك الإريتري”. كما صرح بعض السياسيين الإثيوبيين بأن اهتمام مصر المتزايد بتأمين تواجد عسكري في منطقة القرن الأفريقي يهدف إلى احتواء مشروع سد النهضة الذي تخشى القاهرة من أنه سيؤثر تأثيرا مباشرا على حصتها من مياه النيل.
وإلى جانب التقارير التي تتحدث عن القاعدة المصرية في إريتريا، هناك أحاديث عن قواعد عسكرية أخرى تنشئها مصر في دول الطوق لإثيوبيا، من بينها الصومال، إذا كان من الوارد التفكير فيه من قبل القيادة المصرية، لن يتم دون وجود أسانيد قانونية تبرره، حتى لا تتعرض القاهرة لأزمة دولية تكبدها خسائر فادحة، ومن الممكن اللجوء إليه بصور غير مباشرة، خاصة أن لدى أديس أبابا أزمات عميقة مع بعض جيرانها، بالإضافة إلى أزماتها الداخلية بسبب السد.
وقال الخبير العسكري طلعت مسلم لـ”العرب” إن احتمال العمل العسكري غير مستبعد، لكن سيكون آخر الحلول عندما تغلق كل المنافذ، والوضع الحالي بالنسبة لأزمة سد النهضة ما زال يؤشر على وجود حلول أخرى غير الرد العسكري. وألمح إلى أن القانون الدولي يعطي للدول والأفراد الدفاع عن حقوقهم في الحياة، وفي حالة سد النهضة فإن مصر “تدافع عن بقائها لأن المياه هي حق أصيل لكل دولة وكل إنسان”.
في المقابل، يرى خبراء آخرون أن الحل العسكري يضعف موقف مصر، لأنه يثير سخط المنظمات الدولية ويشعل المنطقة بصراعات جديدة وبطبيعة الحال وباعتبار مصر دولة مصب للنهر فهي لها الموقف الأضعف من الناحية الجغرافية، وعليها الالتزام بالهدوء والمثابرة للوصول إلى حل سياسي أكثر جدوى.
تصعيد دولي
بينما يظل الحديث عن رد عسكري مجرد تخمينات وتلميحات، يأتي الحديث عن تدويل القضية كأحد الخيارات المطروحة بجدية وبشكل رسمي، حيث تفكر مصر في البحث عن منظمات دولية وإقليمية تلعب دور الوسيط لحل المسألة. يأتي على رأس هذه المنظمات الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة ومنظمات متخصصة، مثل المنظمة الدولية لمياه الأنهار والبحيرات واللجنة الدولية للمياه العذبة.
ونقلت وسائل إعلام مصرية عن أعضاء بمجلس النواب المصري أن البرلمان بصدد إعداد ملف شامل يفيد بأن إثيوبيا تعرض شعب مصر لخطر وسيتم رفع الملف إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. وقال نبيل حلمي، أستاذ القانون الدولي، إن اللجوء إلى سياسة الوساطة عن طريق المنظمات الدولية أحد الحلول في حالة استنفاد كل الطرق الدبلوماسية.
ورجح حلمي، في تصريحات لـ”العرب”، البدء أولا بتفعيل التواصل مع الاتحاد الأفريقي باعتباره أولى أكثر بحل القضايا الخلافية بين دوله باعتباره المظلة الكبيرة التي تجمع كل دول القارة، مضيفا أنه في حالة فشل الاتحاد الأفريقي يمكن اللجوء إلى الأمم المتحدة.
في المقابل، قلل خبراء آخرون من فكرة الوساطة والتوفيق بين أطراف النزاع، لأنها ليست ملزمة لأي طرف، بالإضافة إلى أن المسألة تحتاج إلى موافقة كل من مصر وإثيوبيا قبل البت في التحكيم واختيار الهيئة المُحكمة.
وأشار محمد القاضي، نائب رئيس الغرفة المصرية الدولية للقانون والتحكيم الدولي السابق، إلى أن التحكيم الدولي يدخل حيز التنفيذ إذا حدث توافق جماعي على لجنة وسطاء من المتخصصين من الكوميسا أو الجامعة العربية أو من أي كيان دولي رسمي يكون هو المنوط به بحث الخيارات وتقديم النصائح والاستراتيجيات المطلوبة في الفترة القادمة.
تصعيد إثيوبيا
تزامن فشل مفاوضات القاهرة مع زيارة قام بها رئيس وزراء إثيوبيا هايلي ماريام ديسالين لقطر الاثنين الماضي لتعزيز علاقات التعاون الثنائي بين البلدين، جرى خلالها توقيع ثلاث اتفاقيات، بينها اتفاقية للتعاون الدفاعي المشترك. وربطت مصادر مصرية التعنت الإثيوبي الذي ظهر في الجولة الأخيرة بميل أديس أبابا ناحية الدوحة في إطار تصعيد الأخيرة على خلفية مقاطعة القاهرة، إلى جانب الرياض وأبوظبي والمنامة، لها والموقف المصري من جماعة الإخوان المسلمين واتهام القاهرة لقطر بدعم وتمويل تنظيمات على قائمة الجماعات الإرهابية وسبق أن أدنيت في عمليات إرهابية استهدفت مصر.
وتوقع المراقبون أن تشهد الفترة المقبلة تصعيدا في العلاقات بين قطر وإثيوبيا التي تبحث عن ممولين جدد لسد النهضة بعد الضربة الموجعة التي تلقتها مؤخرا باعتقال أهم ممولي السد الملياردير السعودي محمد حسين العمودي ضمن التحقيق في عمليات فساد في المملكة.
كما انخفضت المساعدات الصينية المقدمة لإنشاء سد النهضة بعد أن قررت بكين تجنب التدخل في مشروع قد يشعل أزمة بين بلدين؛ ما يعني أن تجفيف منابع التمويل وتقليص مصادره يمكن أن يكونا من الحلول المؤثرة في تعطيل سد النهضة الذي اكتمل بناء أكثر من 60 بالمئة منه، لأن إثيوبيا لا تمتلك التمويل الكافي لاستكمال السد العملاق.
وفي خضم ذلك، جاءت تصريحات عادل الجبير وزير خارجية السعودية خلال لقائه مع نظيره المصري سامح شكري التي أكدت دعم الرياض الكامل لأمن مصر المائي بمثابة عقبة جديدة أمام إثيوبيا وتأكيد انتفاء أي شكل من أشكال التمويل السعودي لسد النهضة.
وأوضح أيمن السيد عبدالوهاب، خبير الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، أنه في الفترة المقبلة ستكون هناك أولوية كبيرة للمسار الدبلوماسي، والمزيد من الضغط السياسي من خلال اللجوء إلى بعض الدول صاحبة التأثير على القرار في أديس أبابا لانتزاع موقف متوازن يحفظ للجميع حقوقه.
وأضاف لـ”العرب” أن الدول المستثمرة في المناطق الأفريقية يهمها الحفاظ على استقرار المنطقة وعدم تهديد مصالحها وهي معنية بالتوصل إلى توافق بين أطراف الأزمة وعدم حدوث تصعيد. ويعتقد متابعون أن عدم اتفاق القاهرة والخرطوم على آلية موحدة لمواجهة أديس أبابا في الموافقة على الطلبات الهندسية لحماية الأمن المائي تسبب في عرقلة العديد من الاتفاقات ووضع القاهرة في موضع صعب.
على مدار السنوات السابقة، سببت تصريحات وزراء المياه السودانيين خلافا مع مصر بعد أن أكدوا أن سد النهضة لا يؤثر على أمن السودان، ووصل التصعيد بين الجانبين حد التراشق العنيف وتقاطعه مع ملفات شائكة بين البلدين، مثل تفجير أزمة الخلاف حول مثلث حلايب وشلاتين الذي تسيطر عليه مصر حاليا.
تصدير أزمة
رغم ما يسببه لها من أزمات خارجية، واضطراب داخلي، تتمسك إثيوبيا بسد النهضة، الذي يعد الأكبر في أفريقيا ويزيد طوله عن الميل وبإمكانه توليد 7 غيغاواط من الطاقة الكهربائي، وتروج له باعتباره مشروعا قوميا، و”رمزا ملموسا لتعافي البلاد من الذل الذي عانت منه إبان مجاعات الثمانينات والتسعينات”، وفق تقرير بي بي سي.
ويرصد بيتر شوارتزتاين كيف تزخر شوارع إثيوبيا بلافتات عليها صور سياسيين تبشر بقدرة السد على توفير الطاقة الكهربائية للملايين. ويهتف تلاميذ المدارس في إثيوبيا قائلين “هذا هو قدرنا”، لكن ذلك يشير في الوقت نفسه إلى أن بناء السد يجري على حساب عشرات الآلاف من القرويين الذين تم ترحيلهم قسرا من أجل تأجير أراضيهم لشركات الزراعة الأجنبية.
ويضيف أن الحكومة الإثيوبية تفرض رقابة مشددة على التحقيقات الإعلامية بشأن السد، حيث يقول إن “مجرد محاولة القيام بإجراء تحقيق صحافي هناك يعني التعامل مع شبكة معقدة من نقاط التفتيش والمخبرين والناس العاديين الذين يخشون البوح بآرائهم بحرية”.
ويضيف “قال لي طاه في مطعم في بلدة إينجيبيرا يدعى صمؤيل، وكان الخوف باديا عليه، عندما سألته عن قيام الحكومة بالاستيلاء على أراض زراعية مجاورة، “عليك أن تفهم أن هناك مواضيع لا يمكننا التحدث عنها. فهذه أسئلة قد تسبب لك مشاكل”.
لم يكن صمؤيل مبالغا فيما قال، فبعد أيام فقط من ذلك اللقاء، داهمت قوات الأمن الإثيوبية غرفة شوارتزتاين في الفندق الذي كان يقيم فيه، وصادرت التسجيلات التي كان قد قام بها. وفي مناسبة أخرى، يذكر أن قوات الأمن منعته من الوصول إلى مناطق كانت قد صادرت الحكومة أراضي فيها قرب تشاغني.
كما تواجه إثيوبيا اضطرابات داخلية بسبب سد النهضة، الذي يؤثر بشكل مباشر على قبائل الأورومو في منطقة بني شنقول جوموز القريبة من الحدود السودانية، لما يسفر عنه من احتمال إغراق أراضي السكان المحليين والـتأثير على الزراعة.
يقول علي منوفي، من وزارة الموارد المائية المصرية لبي بي سي «النيل كل شيء بالنسبة لنا، فهو ما نأكله وما نشربه، ستكون كارثة إن حدث شيء له»، فمصر دولة صحراوية، ذات أمطار قليلة، وتعتمد على النهر في 95 بالمئة من مياهها؛ مما يجعل تهديد سد النهضة بانحسار المياه عنها أو حتى قلة منسوبه تهديدا للحياة، فهل ستشهر مصر سلاحها دفاعا عن النيل، الذي وإن لم تكن مصر دولة منبع فإنها من أكثر الدول التي ارتبط اسمها به؟
يطرح كثيرون هذا التساؤل اليوم على ضوء تطورات الأزمة وفشل الحول الدبلوماسية، فيما يجيب آخرون بأن العمل العسكري ضد سد النهضة قادم لا محالة، إن لم يكن اليوم فسيكون حتما خلال عقود قادمة، حين تتحول مخاوف اليوم إلى حقائق.