جاءت استقالة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري، وتداعياتها محليا وإقليميا، في توقيت غير موات بالنسبة لإيران، التي تواجه تصعيدا دوليا قد ينتهي بخسارتها لكل ما حققته في السنوات الماضية. وتتطلع طهران بقلق إلى ما سيفضي إليه اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية الذي ينعقد بطلب من الرياض لبحث انتهاكات إيران بحق بلدانهم، وسيكون لتطورات الوضع في لبنان نصيب الأسد من النقاش.
وضعت المعطيات الجديدة التي فرضتها استقالة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري إيران في موقع دفاعي لم تستطع الانتقال منه حتى الآن، خاصة بعد أن بات واضحا أنها لم تكن بعيدة عن التزامن اللافت بين ما يحدث داخل لبنان وبين التصعيد الملحوظ في اليمن عقب إطلاق الصاروخ الباليستي على الرياض في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه الاستقالة، وهو التصعيد الذي كانت لبنان حاضرة فيه أيضا في ظل الاتهامات التي وجهت إلى حزب الله بالمشاركة فيه.
انعكس حرص إيران على الدفاع عن موقفها في تطورين مهمين: الأول، مسارعة مستشار المرشد الأعلى للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي، في 14 نوفمبر 2017، إلى الرد على التصريحات التي أدلى بها الحريري في حواره مع تلفزيون المستقبل. وقال فيها إنه طالب خلال لقائه ولايتي بوقف التدخلات الإيرانية -التي لم تعد مقبولة- في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وزعم ولايتي أن هذه التصريحات غير صحيحة، مضيفا أن الحريري عرض خلال اللقاء القيام بالتوسط بين السعودية وإيران، مشيرا إلى أن المحادثات لم تجر في أجواء غير ودية ولم تكن هناك مشاحنات.
واللافت في هذا السياق، هو أن إيران نفسها كانت أول من أثار جدلا حول فحوى ما جرى في هذا اللقاء الذي سبق إعلان الاستقالة بيوم واحد، خاصة بعد أن نشرت بعض وسائل إعلامها القريبة من الحرس الثوري، مثل وكالة “فارس”، تقارير حول نقاش دار بين الطرفين تركز على الربط بين وقف دعم إيران للمتمردين الحوثيين وتحسين علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، ثم مسارعتها بعد ذلك إلى نفى تلك التقارير جملة وتفصيلا.
ويكمن التطور الثاني في الجدل الذي أثاره الخبر الرئيسي الذي نشرته صحيفة “كيهان” (الدنيا) المحافظة في 6 نوفمبر الحالي، على صدر صفحتها الأولى وتضمن تهديدا مباشرا باستهداف مدن خليجية أخرى إلى جانب الرياض، على غرار دبي، بالصواريخ التي تنطلق من اليمن ويشارك حزب الله اللبناني في عملية إطلاقها.
تكمن أهمية هذا الخبر في أن “كيهان” تعتبر الصحيفة الأكثر قربا من المرشد علي خامنئي الذي يقوم بتعيين رئيس تحريرها. واعتادت إيران كثيرا على توجيه رسائل عديدة إلى قوى دولية وإقليمية عبر الافتتاحيات التي يكتبها رئيس تحريرها حسين شريعتمداري.
كما تزامن هذا التطور مع الاتهامات التي وجهها التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن إلى إيران وحزب الله بمد الحوثيين بالخبراء والتقنية، حيث قال المتحدث باسم التحالف العقيد الركن تركي المالكي، في 5 نوفمبر، إن التصعيد الخطير من الحوثيين أتى بسبب الدعم الإيراني، وأن حزب الله يقوم بتهريب الأسلحة من لبنان إلى سوريا ثم إيران فاليمن.
وبعد هذا التصعيد قامت السلطات الإيرانية بمسرحية إصدار قرار إغلاق الصحيفة لمدة يومين بزعم أنها لم تراع تعليمات سابقة صدرت من النيابة العامة والمجلس الأعلى للأمن القومي.
ويمكن القول إن إيران سعت من خلال اتخاذ هذه الإجراءات وتوجيه تلك الرسائل إلى تحقيق هدفين: أولهما، نفي الاتهامات التي توجهها لها قوى إقليمية ودولية عديدة بالمساهمة في تفاقم الأزمات الإقليمية المختلفة عبر تقديم دعم مستمر لتنظيمات إرهابية ومسلحة تصر على مصادرة القرار السياسي للدولة والتمرد على الشرعية الدستورية، على غرار حزب الله في لبنان وأنصارالله في اليمن.
وثانيهما، تحييد أية تداعيات سلبية قد تنجم عن إلقاء الضوء على مخاطر برنامج الصواريخ الباليستية الذي تمتلكه وتسعى إلى تطويره باستمرار، خاصة بعد أن ثبت أن الصاروخ الذي أطلق على الرياض إيراني الصنع ولم يكن موجودا قبل بدء الحرب.
ومن دون شك، فإن ذلك يشير إلى أن هذه النوعية من الصواريخ كانت أحد أهم الأسلحة التي قامت إيران -عبر التنسيق مع حزب الله- بتهريبها إلى الحوثيين لدفعهم إلى مواصلة احتلال العاصمة صنعاء وعدم الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي. وهنا، فإن إلقاء الضوء على صواريخ إيران الباليستية الموجودة لدى الحوثيين يثبت زيف الادعاءات التي تقوم بترويجها لتبرير إصرارها على الاستمرار في تطويرها بحجة أنها لأغراض دفاعية ولا تنتهك قرارات مجلس الأمن، خاصة القرار 2216 الصادر في 14 أبريل 2015 والقرار 2231 الصادر في 20 يوليو 2015.
قراءة متداخلة
يشير الارتباك الملحوظ في موقف إيران تجاه تطورات الوضع في لبنان إلى أنها تدرك أن هذه الأزمة يمكن أن تفرض تداعيات سلبية على مصالحها وحساباتها. إذ أنها بداية تلقي الضوء على الأسباب الحقيقية للأزمة، والتي تتمثل في سعي حزب الله إلى مصادرة القرار السياسي اللبناني لصالح إيران.
وكان لافتا أن الحريري ركز في حواره التلفزيوني الأخير على التداعيات السلبية التي يتعرض لها لبنان بسبب السياسة التي يتبناها حزب الله، سواء على صعيد توتر علاقاته مع الكثير من الدول العربية التي تتعرض لتهديدات مباشرة منه، أو على مستوى فرض عقوبات أميركية جديدة على الحزب ربما تؤثر بشكل عام على الاقتصاد اللبناني الذي ما زال يعاني من تراكمات الأزمة السياسية السابقة لتشكيل الحكومة المستقيلة في ديسمبر 2016.
فضلا عن ذلك، فإن اندلاع الأزمة في هذا التوقيت تحديدا يربك حسابات إيران في سوريا، خاصة في ظل تخوفها من أن تساهم هذه الأزمة في تعزيز موقع واشنطن في تفاهماتها الأمنية مع موسكو حول سوريا، لا سيما فيما يتعلق بتقليص الوجود الإيراني القريب من الحدود مع إسرائيل.
هذا إلى جانب أن هذه الأزمة سوف تساهم في إعادة تفعيل موقف عربي مناهض لسياسات إيران وتدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، خاصة مع انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العربي في 19 نوفمبر الحالي، بناء على دعوة وجهتها السعودية لبحث سبل التصدي للتدخلات الإيرانية ومواجهة تهديداتها للأمن والسلم العربيين.
اتجاه مضاد
لكن البعض يحذر من هذه الأزمة باعتبار أنها يمكن أن تفرض تأثيرات عكسية قد تؤثر على تيار المستقبل وليس على حزب الله، خاصة أنها قطعت الطريق أمام مواصلة تعويل الحريري وتياره على التفاهمات السياسية التي توصل إليها مع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر، والتي بدأت مع انتهاء أزمة الفراغ الرئاسي في أكتوبر 2016 ثم تشكيل الحكومة في ديسمبر من العام نفسه.
ووفقا لذلك، فإن هذه التفاهمات كان من الممكن أن تساهم تدريجيا في توسيع نطاق التباين في موقف التيار مع قوى 8 آذار، بشكل كان سيؤثر على الموقع السياسي للأخيرة، وتحديدا حزب الله، وبالتالي على مشاركته في الصراع السوري. كما أن احتمال عدم تحقيق تلك الخطوة لنتائج سياسية على الأرض يمكن أن يؤثر على حظوظ تيار المستقبل في الانتخابات النيابية القادمة التي سوف تجرى في مايو 2018.
هذا فضلا عن أن المواقف الهادئة التي تبناها المسؤولون اللبنانيون والقوى السياسية المختلفة إزاء قرار الاستقالة ألقت في النهاية بالكرة في ملعب الحريري نفسه، خاصة مع إصرار عون على عدم قبول الاستقالة قبل عودته إلى لبنان، وأكد الحريري على إمكانية حدوث ذلك في الأيام القادمة وألمح إلى احتمال تراجعه عن الاستقالة بشروط، وهو ما يعيد المشكلة إلى مربعها الأول دون أن تترتب أية استحقاقات سلبية على تلك القوى.