من الصراع الأميركي الإيراني إلى ليبيا، يتكرر فشل الاتحاد الأوروبي في حماية مصالحه والدفاع عنها وهو ما قد يحوله من لاعب إلى ساحة للعب الآخرين.
برلين- أعادت التطورات الأخيرة التي استهل بها عام 2020 بدايته الساخنة خاصة في الملفين الليبي أو الصراع الأميركي – الإيراني عقب مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجدل حول الحضور الباهت للاتحاد الأوروبي في هذه القضايا الهامة.
في حين أن حقائق الجغرافيا والمصالح تحتم تدخل القوى الأوروبية في الأزمة الليبية، فالواقع يقول إن تركيا وروسيا عازمتان على تقسيم ليبيا إلى مناطق نفوذ على غرار ما حدث في سوريا، وهو ما سيضر بمصالح الاتحاد الأوروبي، بحسب رؤية المحلل السياسي الألماني أندرياس كلوت في تحليله الذي نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء. وفي حين يتصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة بعد مقتل سليماني، يبدو أن الاتحاد الأوروبي ليس له أي دور مؤثر في الملف الإيراني.
مصالح مهددة
يقول كلوث، الذي شغل في وقت سابق منصب رئيس تحرير صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية، إن الاتفاق النووي، الذي تم توقيعه بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا، كان يعتبر أحد أكبر إنجازات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. والآن يبدو أن الأمر كما لو كان تساهلا جديدا في مسلسل السذاجة الأوروبية.
إن مصالح الاتحاد الأوروبي في كل من ليبيا وإيران، باتت على المحك. على سبيل المثال، فإن ليبيا هي دولة على بعد عدة أميال من السواحل الأوروبية. وقد أصبحت مأوى لعصابات تهريب البشر والمهاجرين غير الشرعيين المتجهين إلى الاتحاد الأوروبي.
في ظل تصاعد التوتر في المنطقة يدعو الاتحاد الأوروبي كافة الأطراف إلى "ضبط النفس" كما يفعل دائما. لكن قرارات الحرب والسلام تتخذها أطراف أخرى بعيدا عن الاتحاد
من ناحية أخرى يحاول الاتحاد الأوروبي الحديث بصوت دبلوماسي واحد، من خلال شخصية “الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والأمنية”. ويشغل هذا المنصب حاليا الإسباني جوزيب بوريل. وهذا الشخص يدرك جيدا الحاجة إلى المزيد من الوحدة.
وقد حذر بوريل من أن الاتحاد الأوروبي قد يتحول من لاعب إلى ساحة للعب الآخرين في عالم تتبنى فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا وتركيا وغيرها سياسة واقعية لا تعرف الهوادة. وفي يوم واحد من العام الماضي استخدمت إيطاليا حق الاعتراض لمنع صدور قرار بشأن فنزويلا، وعرقلت دول أخرى صدور بيان بشأن انهيار اتفاق نووي بين روسيا والولايات المتحدة، ورفضت بولندا والمجر عرضا مقدما للدول العربية للتعامل مع ملف الهجرة غير الشرعية.
إن القوى الأخرى في العالم تستغل هذا الوضع. فعلى سبيل المثال تمول الصين مشاريع ضخمة للبنية التحتية التي ترتبط بدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل البرتغال واليونان والمجر، كجزء من مبادرة “الحزام والطريق”.
وهذه الدول الأوروبية عرقلت صدور بعض بيانات الاتحاد الأوروبي ضد الصين.إن أحد الحلول الواضحة لهذه المشكلة هو التخلي عن شرط الإجماع في صدور قرارات الاتحاد الأوروبي في مجال السياسة الخارجية، والاعتماد على “الأغلبية المؤهلة”.
وهناك مقترحات قائمة في هذا الشأن. وفي حال تبني مثل هذه المقترحات سيكون في مقدور الاتحاد فرض عقوبات، أو إرسال بعثات عمل مدنية، أو إصدار بيانات تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في دولة ما، إذا وافق 55 بالمئة من الدول الأعضاء بالاتحاد، بحيث تضم ما لا يقل عن 65 بالمئة من سكان الاتحاد، مع الإبقاء على قرار نشر القوات الأوروبية في الخارج في يد الدول الأعضاء.
ويرى معارضو هذه المقترحات أنها ستمثل تقليصا جديدا للسيادة الوطنية لدول الاتحاد، حيث ستتجاهل الدول الكبرى آراء الدول الأصغر، وهو ما سيعزز موقف التيارات الشعبوية الرافضة للاتحاد الأوروبي، بما يهدد تماسك الاتحاد. ولكن المؤيدين لمقترح التصويت بالأغلبية، يرون أنه سيحمي الدول الصغيرة، من الضغوط الخارجية الصينية أو الروسية. وقبل كل ذلك، فإنه سيجعل الاتحاد الأوروبي أقوى. وبالتالي فإن التصويت بالأغلبية يمثل بداية ضرورية لإصلاح السياسة الخارجية للاتحاد. ورغم ذلك، فهذا ليس حلا لكل مشكلات الاتحاد على صعيد السياسة الخارجية لأن الدول الأعضاء تواصل تجاهل أي قرارات أو سياسات يتم إقرارها إذا لم تعجبها. وهي تفعل ذلك طوال الوقت، بحسب كولت.
إختلافات عميقة
هذه الممارسات تقوم بها دول تدعي عادة أنها تحترم التحرك الجماعي للاتحاد، مثل ألمانيا. فالمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي وأغلب دول الاتحاد تعارض مشروع خط أنابيب الغاز بين روسيا وألمانيا المعروف باسم “نورد ستريم2” أو “تيار الشمال2” الذي يمر عبر بحر البلطيق.
فالمفوضية والبرلمان وهذه الدول ترى أن الخط يزيد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، ويلحق الضرر بدول شرق أوروبا التي يمر عبرها الغاز الروسي حاليا. ولكن ألمانيا، وبسبب ميل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحاكم بألمانيا، تضغط من أجل المضي قدما في الخط رغم الاعتراضات.
هذا الاختلاف الجذري في النظر إلى العالم وتهديداته، هو نصف المشكلة. أما النصف الآخر، فهو إنكار سياسة القوى كتلك التي تحولت إلى نظام لعمل الاتحاد الأوروبي باعتباره مشروع سلام “لما بعد مرحلة الدولة الوطنية”.
إن التوجهات السياسية الآن تتحول من المثالية إلى الواقعية ومن التحرك متعدد الأطراف إلى التحرك الأحادي ومن القوة الناعمة إلى القوة الخشنة. والقوى الجيوسياسية المنافسة للاتحاد الأوروبي تتعامل مع القوة من منظور كمي، يمتد من التجارة إلى العملة والتكنولوجيا والاستثمار والهجرة والطاقة وصولا إلى حاملات الطائرات والصواريخ، ثم الطائرات المسيرة، كتلك التي استخدمت أفي قتل سليماني.
باتت القوى الكبرى تتجاهل الاتحاد الأوروبي في ملفات إيران والعراق والخليج ككل. ففي ظل تصاعد التوتر في المنطقة يدعو الاتحاد الأوروبي كافة الأطراف إلى “ضبط النفس” كما يفعل دائما. لكن قرارات الحرب والسلام تتخذها أطراف أخرى بعيدا عن الاتحاد.
وفي ليبيا منذ نوفمبر الماضي تقوم تركيا بتسليح حكومة فايز السراج. في المقابل وقع السراج اتفاقية لترسيم الحدود مع تركيا، يمكن لها أن تعرقل مشروع خط لأنابيب الغاز بين إسرائيل وقبرص واليونان.
والآن يرسل أردوغان قواته إلى ليبيا، ويشير إلى رغبته في التوصل إلى اتفاق مع روسيا، كما حدث بينهما بشأن سوريا. مثل هذا السيناريو يمنح تركيا السيطرة على اثنين من أهم معابر الهجرة غير الشرعية إلى الاتحاد الأوروبي.