عند مراجعتنا وتقييمنا لعملنا اليومي والأسبوعي على مدار السنة، نكتشف أننا لم نستفد من أوقات فراغنا التي تتاح لنا طيلة أنشطتنا اليومية حيث تشهد كافة شرائح المجتمع توفر أوقات فراغ تختلف مدتها من فئة عمرية إلى أخرى، وهنا يطرح السؤال : هل المجتمع يستثمر أوقات فراغه؟
هذه محاولة لطرح إشكالية الوقت وأهميته في حياة البشر. قالت العرب " الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" فكل ما في الأمر أن هناك من يستثمر أوقات فراغه المتاح له ويطوعه لصالحه وصالح المجموع العام، وهناك من يسئ استغلاله فيصبح فريسة له، لهذا نحن لسنا في حاجة للبحث عن وقت فراغ باعتباره متوفر لكل منا، بل نحتاج إلى ترشيد طرق استثماره وحسن التصرف فيه.
وهنا يبرز حسن أو سوء استثمار الوقت حيث يختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لآخر كل حسب عاداته وتقاليده وأسلوبه في التفكير، فهناك من يعطي قيمة للوقت ويستثمره ايجابيا وهناك من لا يعير اهتماما له حيث يمر القوت دون الانتفاع به، وهنا تتضح جليا إرادة الإنسان بين من له إرادة قوية تجعله يطور حياته من خلال استثمار أوقات فراغه في الايجابيات وفي كل ما يعود عليه بالنفع وبين من له إرادة ضعيفة تكبله من أن يخطو خطوة نحو التقدم والتطور ويرضى بما هو عليه بالرغم من أنه يملك وقت فراغ يمكن أن يستفيد منه. وفهم كل هذا علينا تحديد بعض المفاهيم.
الوقت: تشير أغلب المعاجم والقواميس إلى أن الوقت هو عبارة عن مقدار من الزمن ويتضح من خلال هذه التعريفات أن الوقت بالنسبة للإنسان هو الفترة الممتدة بين ولادته و وفاته وكيفية الاستفادة منه طيلة حياته ومدى استثماره في أنشطته المختلفة باعتبار وأن الوقت أو الزمن هو الرأس المال الحقيقي للإنسان ولابد له أن يعرف كيف يستغله لصالحه، لأن الوقت يسير إلى الأمام ويمر بسرعة ولا يمكن إيقافه أو استرجاعه فالأيام تتابع ولا تتشابه ولهذا علينا أن نعرف كيف ندير الوقت المتاح لنا لتحقيق الأهداف المهمة في حياتنا دون أن نفقد التوازن بين واجباتنا المهنية وحياتنا الخاصة المتمثلة في حاجيات الجسد والروح والفكر وذلك لنجعل حياتنا منتجة وذات منفعة داخل المجتمع، فعملية حسن إدارة وقت الفراغ وحسن التصرف فيه من شأنه أن يجلب لنا عديد الفوائد على المستوى المهني والاجتماعي والصحي والنفسي كما يمكننا من التفكير وإعادة النظر في طرق عيشنا ورؤيتنا للأحداث وتقييمها من أجل اتخاذ القرارات الصائبة وذات منفعة.
أما فيما يتعلق بإهدار الوقت وعدم استثماره يؤدي بالضرورة لعدم تحقيق الأهداف بشكل فعال وهذا ناتج عن عادات وأساليب عيش سيئة توارثها الإنسان عن محيطه ولم يفكر في تغييرها، لأن وقت الفراغ ينشأ من عجز وتكاسل الإنسان ، فعلى سبيل الذكر لا الحصر نجد الكثير من كبار السن ممن أحيلوا على التقاعد ظنوا أن رسالتهم في الحياة قد انتهت وأن لا دور لهم لذلك تجد لديهم كثير من وقت الفراغ، أيضا نجد الكثير من التلاميذ والطلبة من يشعر بالملل والفراغ خلال العطل المدرسية والجامعية، ولكن الذي يضع أهدافا لحياته ويسعى لتحقيقها فإنه سيتخلص من هذه المشكلة وعليه يجب على كل فرد أن يخطط لحياته تخطيطا عقلانيا ، لهذا لابد علينا من أن نتسلح بالعقل والحكمة في إدارة أوقات فراغنا بشكل ايجابي وذا مردودية نفعية، كما لابد من أن نغير من سلوكياتنا وعاداتنا المبنية على عدم إدراك قيمة الوقت وأهميته في حياة البشر ولا بأس في أن نأخذ وقتا وجيزا نقيم فيه تصرفاتنا وأنشطتنا اليومية وندرك أن عدم استثمار وقت الفراغ يمكن أن يترك في نفس الإنسان الكثير من السلبيات ويسب له الشعور بالملل، والملل قد يؤدي إلى انعدامية الإنتاج والتراخي عن إنجاز أي عمل مفيد، وهذا بدوره يعطي شعورا سلبيا قد يطول ويصبح حالة مرضية، كما يكون وقت الفراغ في كثير من الأحيان سببا في خلق حالة من العصبية لدى الشخص ويشعر أن وقته يذهب هدرا، وهذا يجعله يشعر بأنه شخص غير مهم ولا يقوم بدور جوهري في الحياة. وفي بعض الحالات نجد أن الشخص الذي لديه كثير من وقت الفراغ يلجأ إلى النوم لساعات طويلة وهذا يؤثر سلبا على صحته وحالته النفسية مما يؤدي في بعض الأحيان إلى العزلة ولا يفكر في التواصل مع المجتمع وينبذ الانخراط في أي نشاط مفيد، كما يمكن لوقت الفراغ أن يخلق حالة من العشوائية وعدم النظام في حياة الفرد وعدم الالتزام أو الانضباط، ونتيجة لوقت الفراغ يمكن للفرد أن يدخل في علاقات سيئة من خلال تعامله مع أصحاب السوء والقيام بأعمال التي تكون مسيئة وبلا فائدة . هذه السلبيات وغيرها لابد للفرد أن يعي بها ويكتشفها والعمل على معالجتها بهذه الطريقة يمكن له أن يتجاوزها واستبدالها بما هو ايجابي ويقتنع بأن فشل اليوم سيكون حتما نجاحا غدا.
المطالعة هي عملية فكرية تتم عبر القراءة بأسلوب صحيح يتبعه الفهم والنقد والانتفاع بهذه القراءة من خلال معرفة مواقف الحياة من خلال كتب ومعرفة التجربة والحكمة وبالتالي مواجهة المشكلات ومعرفة طرق حلها جيداً، وتعتبر الكتب من أهم المصادر التي يمكن من خلالها الحصول على المعلومات التي يحتاجها الإنسان، فنجد أنها تقوم بوظيفة تمكين الإنسان من الوصول إلى المعلومات التي يحتاجها، كما نرى أن من الممكن أن يقوم الإنسان بواسطتها بشكل مباشر بالحصول على المعارف والعلوم الإنسانية التي كانت موجودة في العصور القديمة والحالية، فالمطالعة تعد بمثابة طرف اتصال الإنسان مع الآخرين بهدف تبادل الأفكار ومشاركة الأهداف. ولا شك أن للمطالعة أهمية كبيرة سواء بالنسبة للفرد الذي يقوم بها أو للمجتمع بوجه عام وذلك لأن ما يكتسبه الفرد خلال عملية المطالعة سينعكس على أدائه وتعاملاته مع المحيطين به الأمر الذي يعود ايجابيا على المجتمع ككل، ويمكن لنا أن نذكر أهمية المطالعة في النقاط التالية
- تعتبر المطالعة الركيزة الأساسية للتثقيف الذاتي للفرد
- تسهم المطالعة في بناء شخصية واعية ومدركة أن من أهم سبل الارتقاء بالإنسان هو التسلح بالعلم والثقافة ومحاربة الجهل.
- تكسب خبرات جديدة وتعينه على التفاعل مع أبناء محيطه، وتكون سببا جوهريا في إبداعه وبحثه واكتشاف كل ما هو جديد.
- تسمح للفرد الوصول إلى الكثير من الحقائق بشأن الموضوعات التي تخصه والتعرف على حقوقه و واجباته.
- تفتح أمام الفرد الفرصة للتعرف على حضارات الشعوب وثقافتهم وعاداتهم بالشكل الذي يعينه على فهمها وتنوع معلوماته .
- تجعل من الفرد أكثر قوة في مواجهة المشكلات نظرا لما اكتسبه من معرفة وتعلم من تجارب السابقين وكيف تعاملوا مع تلك المشكلات واستطاعوا تجاوزها.
- تصقل شخصية الفرد وتقويها وتمده بالخبرة عبر ما استلهمه من معلومات عن حياة الآخرين وتجاربهم في جميع المجالات
- توسّعُ أفقَ القارئ وتُبعده عن العالم الضّيق، فحين يحرصُ الإنسان على متابعة ومطالعة الجديد في أمور الحياة، فإنّ ذلك يوسّع آفاقه للتفكير والتمحيص والنظر في هذه العلوم
- تعدُّ متعةً كبيرةً تتوفر للإنسانِ بثمنٍ زهيد، كما أنّها لا تُحدّد الإنسان بمكانٍ أو زمانٍ مُعيّنين، بل بإمكان الإنسان المطالعة والقراءة في أيّ وقتٍ شاء وفي أيّ مكانٍ.
- تعدُّ من عوامل الازدهار البشري ومعرفة المستقبل واستكشافه، ولا تقدّم وتطوّر المجتمع دونَ أنْ يكون أساسه إنماء الوعي لدى الجمهور والعامّة لمفهوم المطالعة والقراءة، لتكون قيمةً حضاريةً بأدواتٍ وآلياتٍ محددة
- هي الركيزة الأساسيّة لأي علم، ومفتاحُ عبورٍ يصل الإنسانَ بممتلكات الأفراد الفكريّة
وإذا ما اقتنع الفرد وأدرك مدى أهمية المطالعة في حياة البشر يصبح سهلا عليه استثمار أوقات فراغه في مطالعة جميع أوعية المعلومات لأن عملية التثقيف والتعلم والتفكير تكون في حالة أوقات الفراغ وأوقات مريحة يشعر فيها بتحقيق شيء مفيد دون جهد كبير ودون تقيد بزمن أو مكان، ومن المؤكد أن المعتادين على ملء أوقات فراغهم بالمطالعة يشعرون بالتميز من خلال ما تحصلوا عليه من معلومات إضافية تفيدهم في حياتهم العامة، وعليه
ندعو كافة شرائح المجتمع دون استثناء وبمختلف قدراتهم العلمية وميولاتهم الفكرية إلى استثمار أوقاتهم في مطالعة الكتب العلمية، وقراءة الكتب التي لها علاقة بفاعلية الذات، فهذا من شأنه أن يزيد ثقافتهم ويكرس خلفيتهم الثقافية بمعلومات قيمة، تفيدهم في حياتهم العملية،الأسرية والاجتماعية. وما توفر وانجاز المكتبات العمومية ودعمها بأرصدة هامة ومتنوعة تشمل جميع المعارف الإنسانية إلا من أجل تثقيف الفرد ودعوته لاستثمار أوقات فراغه في الحصول على المعلومات لتطوير ذاته ومن خلاله المساهمة في تطوير المجتمع.
إن الوعي بقيمة الوقت وأهميته في حياة البشر وباعتبار أن الوقت هو الحياة وهو المفهوم الذي لابد أن يسير عليه كل فرد ويتبعه لرسم مستقبله وجعله كما يخطط له ولا يضيع منه دقيقة واحدة، لإنّ للوقت في حياة الإنسان أهمية كبيرة، فهو يمضي ولا يرجع، ولا يُمكن إرجاعه، فالوقت الضائع قد يكون مفيداً جداً في حال لو قمنا باستغلاله الاستغلال الأمثل، كثير من الوقت في يومنا الواحد يضيع هباءً منثوراً، ونأتي في آخر اليوم نجد أنفسنا لم نفعل شيئاً مفيد، وهذا سببه عدم وجود خطة لاستغلال الوقت الضائع في أشياء قد تجعل يومنا مختلفاً وناجحاً ومفيداً على كافة الأصعدة. مع التطورات الكبيرة الكثيرة التي نعيشها، أصبح من السهل إنجاز الكثير من الأعمال بوقت قياسي، وهذا قد يخلق لنا وقتاً كبيراً من الفراغ، بخلاف الأزمنة القديمة فقد كان الإنسان ينشغل طول يومه بحثاً عن الطعام والشراب وإيواء نفسه إمّا من حرارة الشمس أو من مطر الشتاء، لم يكن يضيع الوقت لأن لديه فقط النهار للعمل والليل للسكون والراحة، إن الثورة التكنولوجية التي توالت على الإنسان جعلت من الأوقات التي يقضيها لإنجاز مهامه قليلة، ويبقي الكثير من الوقت في فراغ، فإنّ لم يستغل هذا الوقت المهم فإنّه قد يخسر الكثير من حياته، ولا نعي أهمية الوقت في حياتنا إلّا حين يتقدم بنا العمر ونحدث أنفسنا بأن هناك الكثير من الوقت ضيعناه ولو تم استغلاله لكان الحال أفضل بكثير.
وإذا كانت القراءة طريقة للمتعة والفائدة، و وسيلة تساعد على النمو النفسي والفكري والاجتماعي فإنها تستحق أن يتدرب على مهارتها كل فرد ويعتاد على ممارستها ولابد أن يدرب أبنائه عليها ويحاول أن يجعلهم يشعرون أن المطالعة نشاط فكري ممتع ولا يتطلب جهد ثقيل ولا وقت طويل بل هو استثمار لوقت فراغهم ، وإذا ما تمكنا من ترسيخ عادة المطالعة لدى الناشئة بالأخص فسيكون مستقبلهم أفضل على جميع المستويات ولن يجدوا أوقات فراغ يصيبهم بالملل والإحباط.
بقلم: نــورالديــن مــزهـــود
كاهية مدير المطالعة العمومية بالمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسليانة