هل يمكن ان توحّد القراءة العرب بعد أن فرقتهم السياسة والحدود الجغرافية والأطروحات الفكرية المتشرذمة ، وبعد انفعالات وعواطف الأحلام و الشعارات البراقة التي كانت تهز شوارعنا على مدى أكثر من قرن ؟!! هذا السؤال تشكّل في ذهني بقوة عندما كنت أتابع بعض الإحصائيات و المعطيات التي يعلنها مشروع برنامج تحدي القراءة العربي .وقد أبهرني عدد المشاركين فيه من طلاب كل الدول العربية بما فيها الطلاب القاطنين بالدول الأوروبية حيث بلغت الأرقام المصرّح بها أكثر من خمسين مليون عربيا ممن إنخرطوا في النسخة السابعة في هذا المشروع الذي أطلقته الامارات العربية المتحدة بمبادرة من شيخها الحكيم زايد بن راشد آل مكتوم..
وهذا الرقم لايمكن ان نستخف به أبدا. ولايجب أن نمرّ عليه مرور الكرام ،كما تعود العقل العربي الوثني أن يفعل مع كل الظواهر الدالة والهامة ..إذ أنّ هذه المشاركة الواسعة والشاملة ، ستجمع كل مدارس العرب حول أهم فعل من أفعال التربية والمعرفة والدين .وهو فعل القراءة. بشكل سيحطم الحواجز الجغرافية ويحطم الحواجز النفسية بين الأجيال العربية الجديدة في مراحلها الابتدائية والاعدادية والثانوية والجامعية ..وسيؤلف بين الشتات العربي في المجال التربوي والمعرفي . فألا يستحق ذلك وقفة تأمل وشعور بالدهشة والانبهار ومحاولة فهم حقيقة مايحدث في هذا المشروع ؟
انه متى تجاوزنا النظرة السطحية والأحكام المسبقة ،والمقاربات السياسية الغبية، والمقولات العامة والشعارات الفضفاضة فإن ماحققه هذا المشروع الضخم الذي يقع التعبئة لانجاحه في كل الدول العربية سنويا منذ ثمان سنوات . وترصد له جوائز عديدة وضخمة تشمل التلاميذ و المحكّمين والمشرفين والمنسقين أعتبره شخصيا اول خطوة نحو بناء اركان الوحدة و النهضة الحقيقية لشعوبنا العربية .تلك النهضة التي تبدأ بالاستثمار في العلم .ووضع اول لبنات مشروع تكوين قاعدي سيضع التلميذ العربي منذ عمر مبكر في سياق المصالحة مع أمر إلاهي غالبا ما نستخف في تنفيذه ونحتقره ونرفضه ثقافيا لأن العقل العربي عقل وثني .يميل في مجال العلم والمعرفة إلى التقديس لا التفكير .وإلى الاتباع لا الابداع .مما يجعل الخمول والأخذ بظاهر المعارف والدين ،وسطحه ،هو الغالب على عقيدتنا وسلوكنا وفهمنا ومعظم شعائرنا الدينية .بينما نجد أن فعل إقرأ هو فعل مبعد من دائرة الدين والدنيا، بشكل جعل كل التنظيمات الدينية، تنشأ في العتمة ،وخارج فضاءات المؤسسات الرسمية للدولة الوطنية الحديثة ، لأنها ترفض القراءة والعبادة الحقيقية .وتبنى مقولات الدين والدنيا على معاداة لأهم فعل قرآني ورباني وهو فعل إقرأ . هذا الفعل /الأمر الذي سنجده يشكّل أول علاقة أمر بين الله وعباده في أول وحي سينزل على رسوله الكريم محمّد قبل 13 سنة من الهجرة أنطلق مع سورة العلق التي لم يتجاوز عدد أياتها 19 آية .وتم فيها ضبط جوهر الرسالة الاسلامية ومحور الفعل الديني وحقيقة العبادة في كليتها ببساطة ووضوح ودقة وشمولية .مما سيجعل عدم الأخذ بما جاء في هذه السورة وعدم فهمه وتمثله سببا مباشرا في تفسير أسباب تخلفنا الحقيقية التي لا تريد المؤسسة الفقهية الاعتراف بها والوقوف عندها .فالدين عند الله الاسلام ولكن السؤال البسيط هو :هل يمكن أن تقام اركان الاسلام الحقيقية دون قراءة ؟!!
إن اركان الاسلام في التمثّل الوثني للاسلام قامت على خلط متعمد بين مفاهيم الاسلام و مفاهيم الايمان وتم حصرها في خمسة اركان قد لا يكون هذا مجال التوسع فيها. ولكن على وجه التبسيط والسرعة نوضح ذلك. فقد روي عن ابن عمر وصححه البخاري ومسلم أن النبي قال : «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» وهذه الرواية لايمكن أن تكون صحيحة لأنها تخالف أبسط حقيقة الاسلام وهو أن الرسول محمّد جاء خاتما للانبياء والرسل وليس اولهم وهذه الحقيقة أثبتها القرآن في كل قصصه حول الأنبياء والرسل مثبّتا أن الاسلام انطلق منذ آدم وان كل الأنبياء والرسل جاؤوا بالاسلام مما يفترض بداهة أن الشهادة برسالة محمّد عليه الصلاة والسلام لايمكن أن تكون ركنا من اركان الاسلام لأن من سبقه من الرسل والأنبياء واتباعهم لم يشهدوا بعثته .وأن الشهادة برسالة محمّد وبقية الاركان الاربعة هي مقتضى من مقتضيات الايمان وشعائرة وليس الاسلام الذي هو فعل الكون وكل مخلوقاته "وله اسلم من في السماوات والأرض " بما يعني أن الاسلام ليس فعلا بشريا مقصورا على الانسان وعبادته لله وأن هذه المغالطة والتحريف للدين لايمكن أن تكون إلا انتاجا من انتاجات العقل الوثني الحسي على مر التاريخ السابق للبعثة المحمدية واللاحق لها.و لايمكن تفسير ماحدث من تحريف وفهمه إلا عندما نفهم كيفية اشتغل العقل الوثني في ثقافتنا العربية والانحرافات المتصلة به .و التي شهدها الاسلام بعد تحويل وجهة العبادة من الله إلى الشخص المكلف بحمل الرسالة على نفس الشكل الذي حدث في كل الملل السابقة للرسول. و جاء الرسول الخاتمي محمد عليه الصلاة والسلام في أصل دعوته لتصحيحها و ارجاع العبادة لله وحده ،غير أن العقل الوثني الحسي بعد وفاته نجده يعاود الكرة. ويمكر بنفس مكره السابق .ويشتغل على إعادة مفاهيم التوثين للاشخاص عبر المؤسسة الفقهية واهمال التوحيد الروحاني والتشويش عليه بالأقوال والأحداث المنسوبة للرسول في كثير مما ينسب للسنة المحمّدية ...والحال أن الله في أول علاقة مع رسوله جعل أمره الملزم والمثبت بكل دقة ووضوح هو: القراءة بمعنى اعمال العقل والتدبر في كود الخلق وشفراته وآياته وقوانينه .ممايجعل القراءة هي محور الاسلام وعموده الفقري. ومن لايؤمن بها ويعمل على تنفيذها يخرج من الدين الاسلامي بالكلية إلى الحالة الجاهلية .وهي حالة العماء وظلام الجهل والأهواء والظنون كما ستبين ذلك آيات القرآن في أكثر من موضع وسورة ..
إن التنزيل الحكيم يربط فعل إقرأ بوسيلة القراءة وهي اسمه تعالى وهذه الوسيلة المؤكدة لحقيقة استحقاق الاستخلاف وعضوية التشابك بين القراءة واستعمال إسم الله في ممارسة الاطلاع على اسرار الكون وفك شفراته ..لهذا السبب كان مطلب إقرأ مرتبطا ببيان أهمية القراءة ومنزلتها عند الله. فالقراءة وردت في اتصال باسم الرب وهو اتصال سبحملنا إلى فعل الخلق والوجود اذ أن الأمر كان : اقرأ باسم ربك الذي خلق .خلق الانسان من علق. وهذا الربط بين القراءة واسم الله. ثم بين القراءة وخلق الانسان يدل على اننا إزاء فعل كوني ووجودي .وليس أمام مجرد فعل مهمل من أفعال العبادات المرفوض من العقل الوثني. والمقصي والمحتقر دوما من الاسلام، في منجزه العربي .فنحن إذن إزاء ارتباط بين حلقات وجودية كونية تربط بين القراءة و الله وبين القراءة و الخلق. ثم القراءة والتكريم ثم بين القراءة والعلم والتعليم. وهكذا نجد الترابط يشتغل في سورة العلق على هذا النحو :القراءة بما هي فعل عبادة الله ..القراءة بماهي ادارك لخلق الانسان ووجوده .. ثم العود على البدء وذلك بتكرار فعل أمرالقراءة :إقرأ وربك الأكرم ..وفي التكرار تأكيد وتوضيح وابراز لعظمة وجلالة هذا الامر ..وهذا التأكيد سيعمل على ابراز مكانة ومنزلة الانسان في الكون عبر القراءة لأن ارتباط القراءة مرة أخرى بالله في اسمه الكريم عبر صيغة التفضيل الأكرم سترفع فعل الأمر بالقراءة إلى منزلة عظيمة لامجال للحط منها ورفض الطاعة في الأخذ بها ..اذا ورد فعل القراءة متصلا باستحقاق التكريم :"اقرأ وربك الأكرم " بما يعني أن الكرامة والتكريم لبني الإنسان مستحق على الله في طاعته الواجبة بأمر القراءة وفعلها .فالقراءة هي فعل تكريم وفعل تعليم وهي فعل العلم وموضوعه ...
إن هذا الأمر العظيم المهمل في الثقافات الوثنية الحسية يؤدي عند الأخذ به وطاعة الله في تنفيذه إلى تحقق وجود الانسان وفلاح حياته ،والتكريم له ،وانبثاق علومه ومنهاجه ومدارسه. بينما سيؤدي إهمالها وعصيان الله في الأخذ بها إلى الانحطاط عن الوجود والخلق. والمهانة وزوال التكريم. وحلول الجهل .وذهاب العلم. وهذا ما سيصنع مأساة الانسان وشقائه وضلاله وعمائه .ومانراه اليوم يقينا في واقع العرب من ضعف وجهل وتخلف وقهر واستعمار ..وكله يحدث بسبب عصيان الله في أهم ماكتبه الله على خلقه من قوانين العزة والوجود العليم. وهو القراءة .
لذلك يمكن ان نعتبر بكل وضوح أن من يحث على القراءة ويدعمها ،إنما يدعم مسالك العزة والأخذ باسباب الحياة الكريمة والوجود الراقي ،و العلم بمقتضيات الوجود وقوانينه وحقائقه ...
بل إنه يدعم ويرفع من حيث لا يعلم الجاهلون الاسلام ومكانة المسلمين .
فهل تكون القراءة هي أهم وأعظم مقاربة غفلت عنها الأطروحات الفكرية لمشاريع النهضة العربية الاسلامية لدى روادها الأوائل ولدى المفكرين العرب ؟ وهل نكون بهذا المشروع الذكي الذي أطلقته الامارات العربية المتحدة قد وضعنا أنفسنا في دائرة الاسلام الحقيقي الفعال واليقظ والمستنير ، الذي تبدأ الاستجابة فيه لأوامر الله بالاستجابة إلى صوت القراءة بماهي فعل تدبر وتعقل للوجود وتحقيق للعبادة والكرامة والعلم ؟!!
من الواضح أن التأسيس لتربية تقوم على تعميم القراءة وجعلها محور تنافس ،في مدارسنا وفي دولنا العربية، تضعنا بشكل تلقائي ويسير في طريق نهضة غير مسبوقة وغير شعبوية .نهضة لا تقتفي أثار التقديس الوثني للتراث بل تبني الوجود على عمل العقل والارادة والجهد والعلم ..وهذا هو أساس البنيان الراقي والمتين للشعوب إذا ما رامت التفوق والسيادة والريادة والتمكين للانسان في العالمين .وهو المشروع المنشود لنجاح الثورات العربية والاسلامية .فهل يمكن الاعلان بكل ثقة ويقين بأن مع هذا المشروع قد وضعنا أولى أقدامنا عمليا وليس نظريا في الطريق الصحيحة التي تهنا في الاهتداء إليها منذ قرون عدّة ؟!!...ومنذ أعلن شكيب ارسلان سؤاله الشهير لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون ؟!.. ومنذ بدأ طرح مشاريع النهضة واطروحاتها وحرقة أسئلتها مع محمّد عبدة ، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا، والطهطاوي ..وصولا إلى محمّد عابد الجابري، وأركون، و زكي نجيب محمود، والطيب تزيني، ومحمّد شحرور ،ومحّمد الطالبي والقائمة تطول ...
كتبه الباحث و الأديب