-ان التهريب ليس سوى جزء من منظومة اقتصاديّة متكاملة نمت طيلة سنوات في الظلّ.وما التركيز على هذا النشاط دون غيره سوى محاولة لحجب مشاكل أعمق وأخطر على الإقتصاد الوطني لا على الحدود فحسب،بل في قلب المدن والمناطق الصناعيّة..( الكاتب)
تبنى الإقتصادات على تراكم الثروة داخل البلاد مما يستخرج من باطن الأرض أو مما يضيفه العاملون في الدولة لإقتصاد بلدهم من ناتج عملهم.وكلما كان هذا التراكم كبيرا،وكلما كان المواطنون والمقيمون يعملون بأقصى وأكفأ إنتاجية،كان ذلك مؤشرا على قوة بنيان الإقتصاد وقدرته على توليد الثروة وتراكمها لصالح الأجيال القادمة.
ولكن يشترط لتفعيل وظهور هذه القوة في بنيان الاقتصاد،أن تسد كل منافذ التهريب للثروة الوطنية من الداخل إلى الخارج،بعيدا عن أعين الرقابة الساهرة على حماية وتأمين الاقتصاد الوطني.فالتهريب له مخاطره على أي اقتصاد مهما كان قويا وكبيرا،فهو بمثابة استنزاف لثروات الوطن لصالح المهربين فقط،وحرمان لكل أبناء المجتمع من ثمرة الثروة المولدة أو المستخرجة في الوطن.
لا يخلو مجتمع من أفراد يعيشون من مخالفتهم المقصودة للقوانين،ويسعون إلى مختلف الوسائل الملتوية،من أجل الإثراء على حساب بقية المواطنين واستقرار الدولة.
وإذا كانت ظاهرة الإقتصاد الموازي قد اخترقت كل المجتمعات تقريباً،ومنها الرأسمالية الكبرى،إلا أنها في تونس أضحت تهدد استمرارية الدولة،بعد أن أصبحت تمنع الاقتصاد الوطني من الإنتعاش،وتحقيق نسق تصاعدي من النمو الضروري جداً لإخراج البلد من الدوامة المقيتة.
لقد وصلت نسبة الإقتصاد الموازي في تونس،اليوم،إلى حدود 54%،وتقدّر نسبة التجارة الموازية بـ30%.وتحوّل نظام التهريب في تونس إلى واقع مفزع تؤكده الأرقام وتثبته الوقائع اليومية،خاصة بعد أن دخل تجار التهريب أيضاً منظومة الحراك الاحتجاجي الثوري،شأنهم شأن أي موظف عادي..! فقد شهدت مدينة بنقردان،معقل المهربين،في 29 أكتوبر 2014،احتجاجات من قبل رجال التهريب،حيث جرى إغلاق الطريق المؤدي للمدخل الجنوبي للمدينة نتيجة لإشعال الإطارات المطاطية،وذلك احتجاجاً على ما وصفوه بالاعتداءات المتكررة التي يتعرض لها تجار المحروقات المهربة عبر الحدود التونسيةـ الليبية،من طرف الوحدات العسكرية الموجودة عند الشريط الحدودي.
في هذا السياق يقول المحلل الإقتصادي ووزير المالية الأسبق،حسين الديماسي،بأنّ القضاء على ظاهرة التهريب قد أصبح حلماً صعب المنال في تونس بعد الثورة.ويؤكد الديماسي بأنّه من الضروري البحث عن آليات أخرى لمحاولة الحد من الظاهرة،وتطويعها قدر الإمكان لخدمة الاقتصاد الوطني إيجاباً،ولو نسبياً.
وتشير إحصائيات،نشرتها وزارة التجارة التونسية،إلى أنَّ التهريب يكبّد تونس سنوياً خسائر تقدّر بـ3.6 مليارات دولار.
في السياق ذاته كشف تقرير أصدره البنك الدولي حجم التجارة الموازية والتهريب على الحدود التونسية الليبية والحدود التونسية الجزائرية،مظهراً أن التجارة الموازية تلعب دوراً هاماً في التجارة الثنائية مع ليبيا والجزائر لاسيما في قطاعاتمعينة.كما بينت الدراسة أن التهريب يمثل أكثر من نصف المعاملات التجارية لتونس مع ليبيا،في حين من الصعب تقدير مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر لأنها أكثر انتشاراً وأكثر سرية.
على الرغم من ذلك،يمكن تقدير أن ما يقارب 25 بالمئة من البنزين المستهلك في تونس هو من الواردات غير الرسمية من الجزائر.
كشف التقرير أيضا أن تجارة الوقود وزيت الوقود هي الأكثر رواجاً وتعتمدها أكثر من 60 بالمئة من الشاحنات المشاركة في هذا النشاط وأن التهريب ينشط كثيراً في ميدان السجائر بين تونس والجزائر. وقد بلغ إجمالي حجم التهريب بين تونس ومختلف جيرانها ما يقارب 1.13 مليار دولار سنوياً. يعتبر هذا الرقم هائلاً بالنظر إلى محدودية السوق التونسية والوضعيةالاقتصادية الحالية ويعكس مدى تطور السوق الموازية في النسيج التجاري العام للبلاد.
وقدّرت دراسة صادرة عن البنك الدولي قيمة المواد المهربة على الحدود التونسية البرية بنحو 2 مليار دينار تونسي (1.2مليار دولار) سنويا.
وقال لطفي العيادي،وهو مستشار لدى البنك الدولي في تونس،ان الدراسة التي قام بها البنك الدولي تعد بمثابة تقييمتقريبي لقيمة وكمية المواد المهربة على الحدود التونسية البرية.
وأضاف أن أهم المواد التي يتم تهريبها هي المحروقات (الوقود) والملابس الجاهزة والغلال والأجهزة المنزلية.
وبحسب واضعي الدراسة فإن تهريب المحروقات،على خلاف بقية المواد الاُخرى التي يتم تهريبها عبر الحدود،لا يكبد الدولة التونسية مباشرة أي خسائر،بينما يتضرر التجار الذين يحترمون القواعد القانونية في تجارة المحروقات من التهريب.
وأضافت الدراسة أن الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم ظاهرة التهريب في تونس متعددة وأهمها إرتفاع الرسوم الضريبية،التيتصل في بعض الأحيان إلى 100.%
هذا،وتشهد الحدود التونسية الليبية ومنذ اندلاع الثورة في البلدين حالة من الإنفلات الأمني بسبب اعتماد عدد كبير من المهربين على التمعّش وكسب الأموال بطرق غير مشروعة من المدّخرات الوطنية التي تولد عنها انهاك الإقتصاد وجيب المواطن البسيط ذي الدخل الضعيف والذي أصبح يجد نفسه عاجزا عن توفير ما تتطلبه الحياة اليومية بسبب ارتفاع الأسعار.
وكانت المواد المهرّبة متأتية من عدة مناطق من التراب التونسي لتكون نقطة العبور إلى التراب الليبي إما عبر معبر” راس جدير”أو منطقة “الجمال”أو “المقاسمة “.
وتشمل عمليات التهريب الخضر والغلال واللحوم والدجاج والبيض وحتى رؤوس الأبقار والإبل والأغنام والماعز..
إنّ المواطن التونسي-اليوم-مكبّل بلهيب أسعار حاجياته اليوميّة،أسعار تفرضها سماسرة-القوت- و تتحكّم فيها المسالك السوداء لأباطرة التهريب.هذا في الوقت الذي تحدثت فيه جميع الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة في تونس عن مخاطر التجارة الموازية،ورفعت شعار محاربة التهريب.لكن،لا أحد نجح في وضع حد لهذه الظاهرة الخطيرة.
أقول هذا،وأنا على يقين بأنّ هناك أبعاد اقتصادية واجتماعية لمسألة التهريب،لا يجوز التغافل عنها، حيث ليس من السر أن عائلات أو حتى مناطق بأكملها تعيش من التهريب، أدى انحلال الدولة وتفكك أدوات وأجهزة الإدارة والتسيب الشامل والوضع على الحدود خاصة الليبية إلى نسج نوع من الربط العضوي بين التهريب والإرهاب،دون أن يكون ذلك منفصلا عن الفساد بارتباط ببعض الأجهزة الإدارية حتى وإن كانت أقلية.و بالتالي فإن المعالجة لهذا التشابك تنطلق من الإقرار بهذا الواقع لمواجهته على عدة أصعدة، عن طريق التنمية والتشغيل والتخفيض من الأداءات الجمرجية حتى يتدنى تأثيرها التحفيزي على التهريب، و”تنظيم التجارة الموازية”فيما يخص أولا إلتزام العاملين بها بالقطع مع كل ما يتصل بالإرهاب وثانيا شفافية المعاملات ومراقبة قائمة المواد والأسعار وثالثا استعمال جزء من العائدات للتنمية والتشغيل.
على سبيل الخاتمة:
جاءت الثورة التونسية لتثير في الآن ذاته عديد القضايا المتعلّقة بمسائل”التحرّر والتحرير”، “المركز والهامش” و “الرسمي والموازي ” و”المهيكل والمهمّش”.فكانت من بينها مسألة الفضاءات الحدودية والحركيّة التي شهدتها عقب ثورتين متجاورتين (التونسية والليبية) جعلتا أصحاب النظر من القوى المهيمنة -وهي التي لا تزال تعتبر مسألة الحدود بين الدول العربيّة من مشمولاتها الجيوسياسية في العالم-تستنفر أجهزتها لمراقبة تلك الفضاءات التي صارت محلّ اهتمام ومحور بحث وتقصّ لعديد مراكز الأبحاث والإستشراف والمؤسّسات الدولية في العالم.
إلا أنّ الجهود للقضاء على معضلة التهريب بتونس،عبر التعاطي الأمني البحت،أثبتت عقمها نظرا لتواصل نشاطات المهرّبين عبر الحدود والذّين يستفيدون من الواقع الإقتصاديّ المتدهور للمناطق الحدوديّة التونسية والتي وإن أثبتت موقفها الحاسم ضدّ الإرهاب،غير أنّها لم تجد بديلا عن مزاولة هذا النشاط من أجل لقمة عيش لم تتمكّن الدولة من توفيرها.
ومن هنا فإن التهريب ليس سوى جزء من منظومة اقتصاديّة متكاملة نمت طيلة سنوات في الظلّ.وما التركيز على هذا النشاط دون غيره سوى محاولة لحجب مشاكل أعمق وأخطر على الإقتصاد الوطني لا على الحدود فحسب،بل في قلب المدن والمناطق الصناعيّة.
من جهة أخرى،سلطت أحداث الشعابني التي راح ضحيتها عدد من جنودنا البواسل،وتكرار عمليات الإغتيال وما ضبطته قوات الأمن والجيش من أسلحة مؤخرا بمنطقة بن قردان على سبيل الذكر لا الحصر،الضوء على خطر آخر أشدّ ترهيباً وفتكاً بالبلاد من تهريب المواد الإستهلاكية.
وإذن؟
السلاح المحجوز إذا،وحوادث العنف التي شهدتها تونس تثبت أن مسألة ضبط الحدود وحل المشاكل التنموية في المناطق الحدودية تتعدّى بعدها الإقتصادي،لتصبح أولوية قصوى تتعلق بأمن البلاد واستقرار المنطقة ككل.
ويظل السؤال مطروحا حول كيفية معالجة هذه الآفة التي تنخر البلاد والعباد خصوصا وأنّ اقتصادنا أشرف على هوة الإفلاس وغدا منها على الشفير..
محمد المحسن