ما وضع القرارات الأخيرة في صدارة الاهتمامات أنها تقترب من الشعارات التي رفعها قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية. وتتجاور مع ما دأب يوسف الشاهد على ترديده من شعارات تتعلق بحربه على الفساد.
تعيش تونس في هذه الأيام أحداثا حركت المشهد السياسي وهيمنت على اهتمامات الرأي العام. إعلان الرئاسة التونسية الثلاثاء الماضي، إعفاء وزيري الدفاع والخارجية، عبدالكريم الزبيدي وخميس الجهيناوي، من مهامهما، تلاه طلب الرئيس التونسي قيس سعيد من أجهزة الرقابة إجراء “تدقيق مالي شامل” لمؤسسة الرئاسة، ثم إعلان رئاسة الحكومة في تونس الأربعاء إجراء عمليات “تفقد مالي وإداري” بوزارة الخارجية بعد يوم من قرار إقالة وزير الخارجية خميس الجهيناوي، كلها أحداث تتضافر لتقدم مشهدا عدّه البعض فصلا جديدا من الحرب على الفساد، واعتبرته أوساط أخرى قطعا مع مرحلة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
وسواء صحت القراءة الأولى أو الثانية، فإن الواضح أن هذه القرارات تنبع من مفترق الصلاحيات بين الرئاسة ورئاسة الحكومة، ما سمح بالقول بوجود “تنسيق” خفي بين يوسف الشاهد وقيس سعيّد.
ما وضع القرارات الأخيرة في صدارة الاهتمامات أنها تقترب من الشعارات التي كان رفعها قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية. وتتجاور مع ما دأب يوسف الشاهد على ترديده من شعارات تتعلق بحربه على الفساد. كانت فئات واسعة قد هللت للشعارات الواردة في خطاب سعيّد، الذي ارتفع لدى أنصاره إلى مقام “الرجل النظيف” الذي بوسعه أن يلج مناطق محظورة عجزت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن وطئها.
التقت “حرب” الشاهد على الفساد مع ما ورد في خطاب القسم لقيس سعيد حين أكد أنه “لا مجال للتسامح في أي مليم واحد من عرق أبناء الشعب..”، فكانت هذه الإيقافات والقرارات التي يرجح أن تتواصل وأن تشمل مجموعة أخرى من رجال الأعمال والسياسيين والدبلوماسيين، في حملة قدمت التقاء فريدا بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة. راقت شعارات الشاهد للرئيس سعيّد فساندها، ووجد الشاهد في الرئيس فرصة للثأر من خصومه القدامى، وكان منافسه في الانتخابات الرئاسية أولهم.
“التقط” الشاهد الزخم الشعبي الذي تصاعد حول شخصية سعيّد وشعاراته، (بصرف النظر عن وجاهتها وإمكانيات تحققها) وحاول أن يعود إلى الصورة من مدخلين. الأول أن يستأنف حربه على الفساد، والثاني أن يصفي حساباته مع الشخصيات التي لطالما مثلت عقبة أمامه ولم يتوصل إلى إبعادها تبعا لصلاتها القوية مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. ورأى الرئيس من جهته في “مقترحات” رئيس الحكومة المنتهية ولايته فرصة للانطلاق مبكرا في تنفيذ وعوده، وإبعاد رموز المرحلة السابقة.
يسعى كل طرف في السلطة التنفيذية إلى جني أكثر ما يمكن من قطاف من وراء هذه “الحملة”. رئيس الحكومة يحاول تقديم أوراق اعتماده شخصية صالحة للزمن السياسي الجديد، في توقيت موسوم بالانسداد المتصل بعملية تشكيل الحكومة. يقدم الشاهد نفسه للرأي العام على أنه رئيس الحكومة الجاهز لمواصلة ما بدأه، ولبيان أنه حيل بينه وبين تنفيذ برامجه بفعل القوى القاهرة، التي كانت متمثلة في الرئيس الباجي ونجله ومن أحاط بهما. يواصل رئيس الحكومة المنتهية ولايته بحثه عن “موقع جديد” في زمن تعطلت فيه لغة الكلام بين النهضة وغالبية الأحزاب السياسية التي يمكن أن تؤمن لها النصاب القانوني.
مساع حثيثة تحد هوى لدى الرئيس الجديد الذي أسعدته هذه الحملة، سياسيا وشعبيا، أولا لأنها تبعد من طريقه شخصيات يحسبها من “المنظومة القديمة”، وثانيا لأنها ترفع منسوب الالتفاف الشعبي والإعلامي حوله وتقدم للناس عينة أولية عن الوجهات التي يمكن أن يرتادها الرئيس الجديد في حربه على الفساد أو في تصفيته لتركة النظام القديم، كما يواظب على القول.
على أن الاختبار الذي يمكن وضعه لتقييم هذه الحملة وهذا الاتفاق السريع بين الرئاستين، هو المدى الذي يمكن أن تصله. السؤال الذي يمثل اختبارا حقيقيا لقيس سعيّد خاصة، هو هل يمكن أن تتوقف هذه الحملة عند صخرة الأحزاب الكبيرة، وفي أساسها حركة النهضة؟ وهل تمثل القاعدة التي لا استثناء فيها حتى وإن طالت رموزا قريبة أو منتمية إلى النهضة؟
عبدالجليل معالي
كاتب وصحافي تونسي