حركة النهضة قادت البلاد إلى عجز متزايد.
لا تخلو خطوة الرئيس التونسي قيس سعيد عبر تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه من مخاطر، لكنها تعد جريئة وتعبر عن آراء معظم التونسيين الذين سئموا من الوضع المتدهور على كافة المستويات في بلدهم منذ عام 2011 إلى الوقت الراهن.
برشلونة - تمكن التونسيون من التصويت في انتخابات حرة والتحدث دون خوف ونجوا من قبضة قوات الأمن الشديدة وأصبحوا في وضع يحسد عليه مقارنة مع كل جيرانهم العرب منذ أن أطاحت الاحتجاجات الشعبية بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في جانفي عام 2011.
ومنذ ذلك التاريخ توالت الأحداث بسرعة كبيرة لدرجة أنها فاجأت القوى الخارجية مما جعلها غير قادرة على التأثير على نتائجها. وبعد عقد من الزمن وجد الأشخاص الذين كانوا في يوم من الأيام مبتهجين بفوائد التغيير المحتملة أنفسهم مذهولين من تكاليفه الفعلية.
وكما لاحظ الباحث في العلوم السياسية حسين آغا والمسؤول في الإدارة الأميركية روبيرت مالاي في ذلك الحين، إن ما حدث في تونس قلب نظرية لينين رأسا على عقب، حيث افترض الزعيم الروسي أن “انتصار الثورة يتطلب حزبا سياسيا منظما ومنضبطا وقيادة قوية وبرنامجا واضحا”، لكن ما حدث في مصر وتونس كان على عكس الثورة الإيرانية سنة 1979، دون تنظيم ولا قادة معروفين ولا أجندة واضحة.
وفاجأ الرئيس قيس سعيد التونسيين والقوى الأجنبية عندما أقال رئيس الحكومة هشام المشيشي وجمّد البرلمان في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، حيث لم تكن لدى الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أي فكرة عما كان على وشك أن يحدث.
ولم يكن الإسلام ولا الفقر هو ما أثار الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بن علي قبل عشرة أعوام، بل كان الإذلال الساحق هو الذي حرم غالبية التونسيين الذين تقل أعمارهم عن الثلاثيين من حقهم في التحكم في حياتهم.
هتف التونسيون قبل عشر سنوات في شوارع سيدي بوزيد الفقيرة منادين بـ”ثورة الكرامة”، وفاجأ تحركهم القادة الغربيين لأن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي اعتبرا البلاد نموذجا للحكم الرشيد، الذي كان غطاء لتمويه الممارسات التي أصبحت تحت ستار الليبرالية والخصخصة، مفترسة بشكل متزايد. وفي تلك المرحلة أدرك معظم التونسيين غريزيا أن “النفاق والقراءة الاستشرافية للشرق الأوسط لم يسمحا للغرب بفهم ما كان يجري حقا” في بلدهم.
خطوة جريئة
أعطت الخطوة الجريئة التي اتخذها سعيد تونس الديمقراطية الوليدة فرصة ثانية بعد عشر سنوات على التجربة الأولى. ويدل تعيين خالد اليحياوي المدير العام لوحدة الأمن الرئاسي، بالإشراف على وزارة الداخلية وتكليف المستشار في دائرة الأمن القومي برئاسة الجمهورية رضا غرسلاوي بتسيير الوزارة إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، على عمل الرئيس على الحفاظ على الحريات في تونس.
ودعم الخطوات الأخيرة للرئيس التونسي ضباط أمن وجيش كبار آخرون مثل الأميرال المتقاعد كمال العكروت، الذي دعا سعيد مؤخرا إلى تطبيق المادة 80 من الدستور وندد بعزم الحكومة على تأجير أراضي الدولة لمستثمرين قطريين، وبالتالي القضاء على المشروع في مهده.
ويقول الأميرال العكروت، الذي ينحدر من عائلة متواضعة، إنه يشعر بالفزع من حقيقة أن 25 في المئة من التونسيين يعيشون في فقر مدقع. وإن الجيش التونسي محترف وغير مُتسيس وليست له مصالح اقتصادية. إنه لا يشبه أي جيش آخر في العالم العربي.
وكان زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي قد سارع فور الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس سعيد إلى التنديد بما أسماه “الانقلاب”، لكنه كان مترددا في تحمل نصيبه من المسؤولية عن الانهيار الذي أصاب اقتصاد البلاد منذ عام 2011 وفشل الحكومة في التعاطي مع جائحة كوفيد – 19.
وشاركت حركة النهضة في الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2012 وخاضت معارك ثقافية مريرة بين عامي 2012 و2014 شككت في المساواة بين الرجل والمرأة، وهو إنجاز رئيسي لقادة تونس ما بعد الاستقلال.
وتشترك معظم الأحزاب السياسية في جميع أنحاء المنطقة في عدم كفاءتها عندما يتعلق الأمر بالإدارة الرأسمالية والرؤية الريعية للاقتصاد وعدم القدرة على تعبئة موارد البلاد المحلية.
ولم يكف الغنوشي الذي دعا إلى “الحوار الوطني” عن التلويح بخطر “ضغط الشارع” لعكس قرارات الرئيس سعيد.
تصحيح المسار
لا تختلف استراتيجية حركة النهضة عن تلك التي تتبناها النخب الرأسمالية والبيروقراطية التي لم تنل التحولات السياسية التي هزّت البلاد من قوتها وقدرتها على التلاعب بالنظام.
وقادت تلك الاستراتيجية المجتمع التونسي المنفتح جدا على الأفكار الغربية الجديدة إلى عجز متزايد، حيث كانت النخب مسؤولة عن معدلات بطالة كبيرة ومتصاعدة في عهد بن علي، خاصة بين الشباب، وهكذا لم تكن أمام حركة النهضة فرصة كبيرة لإخراج البلاد من هذا المستنقع.
وتعيش تونس اليوم على وقع ارتفاع معدلات البطالة عما كانت عليه في العام 2011، واستمر التفاوت الصارخ في مستوى المعيشة بين المناطق
على ما كان دائما، وأصبحت غالبية الشباب التونسي تحلم بمغادرة ما ترى أنه سفينة تغرق. ورأى هؤلاء أن مفهوم الديمقراطية تلطخ بسبب الطريقة التي مارست بها الأحزاب الكبيرة السياسة.
وينظر المراقبون الغربيون إلى تونس على أنها “ديمقراطية ناشئة”، لكن فسادا مستشريا وبرلمانا يشبه سوقا صاخبة يعمل كمركز لتبادل الصفقات المالية بدل تبادل الأفكار، إلى جانب نواب يعتدي بعضهم على بعض جسديا، الأمر الذي يعكس حقيقة المرجعية الديمقراطية لرئيسه الغنوشي.
وكان قلب تونس ثاني أكبر الأحزاب الممثلة في البرلمان، وهو بقيادة صاحب قناة نسمة نبيل القروي الذي قضى بعض الوقت في السجن بتهمة غسيل الأموال والتهرب الضريبي. وأظهر سلف سعيد، الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي القليل من الاهتمام بإصلاح النظام القضائي، وهو ركيزة أساسية للديمقراطية.
وفي العام 2019 انتخب سعيد بأغلبية ساحقة في الانتخابات الرئاسية، لكن الحكم سيضع مهاراته السياسية الآن في اختبار أعظم بكثير من الرئاسة. ومن الأسباب التي دفعته إلى قطع العقدة الغوردية (مشكلة صعبة يتم حلها بعمل جريء) هو أن دستور 2014 الذي وضعته النهضة لا يحدد بوضوح صلاحيات رئيس الدولة ورئيس الوزراء، ناهيك عن رئيس البرلمان.
وكانت نتيجة ذلك الدستور أنه فتح مشاحنات لا نهاية لها بين الثلاثة بمن فيهم رئيس الوزراء، الذي وصفه رجل أعمال كبير في تونس بأنه “غير كفء”.
ويعتبر رئيس الدولة نفسه تجسيدا للخليفة الثاني للإسلام عمر بن الخطاب، الملقب أيضا بالفاروق (الذي يميز الشر عن الخير). وكان الجيش التونسي قد دعم خطوة الرئيس الجريئة كما ساعد في تحقيق رحيل بن علي قبل عشر سنوات. وتعد المؤسسة العسكرية قوة دربتها الولايات المتحدة وتتمتع منذ الاستقلال باحترام غالبية التونسيين. ولا تزال مؤسسة الدولة التي تحظى بثقة أكبر.
ونزل عشرات الآلاف من التونسيين من جميع الأعمار والمواقع الاجتماعية إلى الشوارع للاحتفال بعد إعلان قرار الرئيس مساء الخامس والعشرين من يوليو الماضي، وكانوا يطالبون بقائد قوي وشغل وحرية وكرامة وطنية التي كانوا يعتقدون أنهم حققوها سنة 2011. وسيتم اختبار مهارات الرئيس سعيد السياسية إلى أقصى حد وكذلك شعبية الجيش.
خارطة طريق
وعد الرئيس سعيد رسميا باحترام الحقوق الفردية لمواطنيه وتحدث إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي كان داعما له. وأعقب ذلك بدعوة إلى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، الذي سافر وزير خارجيته رمطان لعمامرة إلى تونس العاصمة. وتحدث سعيد الثلاثاء مع شارل ميشيل رئيس المجلس الأوروبي. وسيكون الدعم من مثل هذه المؤسسات ذات الوزن الثقيل مفتاح نجاح سعيد في نهاية المطاف.
وعلى عكس بعض وسائل الإعلام الغربية والشرق أوسطية، لا يرى معظم التونسيين أنهم أو رئيسهم يدفنون “ديمقراطية” لم يتمتعوا بمزاياها الاقتصادية والاجتماعية الموعودة. وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخرا شركة استطلاع تونسية خاصة أن ما لا يقل عن 87 في المئة من التونسيين يؤيدون تحركاته الأخيرة ومساندتهم لقرار تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه.
وتصف بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية تونس بأنها “ديمقراطية هشة”. ويرى العديد من التونسيين، قد يشكلون على الأرجح أغلبية، مثل رئيسهم، دولة استولت عليها اللوبيات السياسية والاقتصادية الفاسدة التي كانت تقودها إلى الانهيار.
وكأي خطوة جريئة، فإن خطوة الرئيس سعيّد تحمل مخاطر. وستوضح الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان يتصرف بارتجال آملا في النجاح أو يتحرك طبق خارطة طريق مناسبة. وقد أعرب الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة العمالية القوية، عن دعمه المشروط لعمل الرئيس التونسي وتعهد بالمساعدة في إعداد خارطة الطريق هذه.
فرانسيس غيلس
باحث مساعد في مركز برشلونة للشؤون الدولية