حمل الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الأسبوع الماضي، جملة من الرسائل الهامة في عدة اتجاهات، بعضها استهدف أطرافا متعددة من الأحزاب والشخصيات في المعارضة وفي الائتلاف الحاكم. غير أنه كشف في نفس الوقت عن الخطوات المقبلة التي ينوي اتخاذها كرئيس للجمهورية، وكشف أيضاً عن نوعية العلاقات التي تجمعه ببعض الأطراف السياسية وطبيعة التوازنات التي تميّز المشهد التونسي الحالي.
وكانت أولى رسائله هي محاولته تذكير الجميع بأنه صاحب السلطة الحقيقية في تونس، وأنه المتحكم في إيقاع العمل السياسي في البلاد، يقيّم الوضع ويتحكم وحده في المبادرات ويطلقها متى شاء، في حين يكتفي الباقون برد الفعل والتفاعل مع ما يطلقه من تصريحات ومواقف.
وحاول السبسي في خطابه تذكير الجميع بقانون اللعبة، أي الديمقراطية وما تفرزه من نتائج عبر صندوق الانتخاب. ورسم حدودها وقوانينها من جديد، في تصعيد واضح يهدف للحد من فكرة التشاركية الواسعة والإنصات للأقلية. وأكد أن قواعد اللعبة ستتقرر تحت قبة البرلمان، بما يحمله من توازنات عددية، هي في الوقت الراهن لصالحه. وبذلك، يكون السبسي قد كسر ما يصفه البعض بحاجز الخوف الذي حكم المشهد السياسي إلى حد الآن. ويأتي قرار السبسي التوجه للبرلمان من أجل حسم قانون المصالحة، ليعكس في الحقيقة ثقة الرئيس في الأغلبية التي يملكها داخل المجلس النيابي.
وتكشف مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" عن أن السبسي أوضح علاقته بحركة "النهضة" بشكل قاطع، عندما ذكّر بأنها تقوم أساساً على علاقته بزعيمها راشد الغنوشي واتفاق باريس الشهير بينهما (عام 2013). وانطلاقاً من ذلك، جاء انتقاده لموقف الحركة من قانون المصالحة ليكشف ما أكدته "العربي الجديد" منذ أيام حول غضب السبسي من قرار "النهضة" الذي جاء "رافضاً للقانون بصيغته الحالية". وتوجهت سهام نقده إلى نائب رئيس الحركة، علي العريّض، ورئيس مجلس الشورى فيها، عبد الكريم الهاروني.
وتؤكد المصادر أن السبسي ما كان ليراهن على البرلمان لولا تأكده من تطمينات حليفه الغنوشي بهذا الخصوص. وتضيف أن اتفاقاً قد يكون حصل بين الرجلين حول قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، بما يفترضه ذلك من تنقيح للقانون، تطالب به الحركة ويصر عليه الغنوشي باقتناع، وبطلب من قياداته وقواعده. وتكشف المصادر أن أهم نقاط الخلاف تتعلق بضرورة عدم تعارض القانون مع مسار العدالة الانتقالية، وهو ما يفترض إما إيجاد مسار يقود من القانون إلى هيئة الحقيقة والكرامة أو تعديل قانون العدالة الانتقالية. ويبدو أن بحث هذا الأمر قد انطلق بالفعل. وجاءت ردود فعل الغنوشي الإيجابية على خطاب السبسي لتؤكد أن الرجلين التقيا بالفعل، وتداولا في عديد المسائل التي تهمهما ليس فقط في هذا الأمر وإنما أيضاً في نقاط عديدة أخرى تتعلق بما رشح من مواقف وتصريحات لقيادات في حزب "نداء تونس" وفي "النهضة"، بحسب المصادر.
من جهة أخرى، توجه السبسي في خطابه إلى قيادات الحزبين، داعياً إياها بشكل غير مباشر إلى التحكم في قواعدها أكثر، بسبب ما يحصل من انفلات في جهات عديدة، وتضارب في مواقفها. ولفت إلى أن هذه الحالة لا تقتصر على "نداء تونس" والنهضة" فقط، وإنما تشمل أيضاً أطرافاً أخرى مشاركة في وثيقة قرطاج. غير أن أهم ما أثار الساحة السياسية التونسية والشعبية، هو قرار السبسي تكليف الجيش بحماية المنشآت الاقتصادية الحساسة. وربما كان غريباً أن يطرح السبسي هذا القرار الآن، خصوصاً أن الاحتجاج في منطقة تطاوين سلمي وإنتاج الفوسفات عاد إلى معدلاته الطبيعية تقريباً، وليس هناك تهديدات كبيرة تلوح في الأفق. لذلك يبقى السؤال مطروحاً لمعرفة لماذا اتخذ السبسي هذا القرار الآن ولم يفعل ذلك عندما كان هناك تعطيل فعلي للإنتاج، وهو ما دفعت تونس ثمنه غالياً.
وفي هذا الصدد، تكشف المصادر أن الرئيس السبسي قد يكون بحوزته معلومات غير متداولة تتهدد هذه المواقع، خصوصاً أنه طرح الموضوع على مجلس الأمن القومي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. وخلص إلى هذا القرار بعد استشارة الكوادر الأمنية والعسكرية العليا. لكن المصادر تقول في ذات الوقت إن هذا القرار قد لا يتعلق بالوضع الحالي، وإنما بمستقبل الأيام وقطع الطريق نهائياً أمام كل من يفكر في ذلك، ما يعني أنه يتوقع مواجهات سياسية كبيرة مع المعارضة، يصر على أن تبقى سياسية بحتة لكي لا تعطل الدولة ولا مواردها وآلات إنتاجها. وهذا ما يلتقي مع ما كان صرّح به رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عندما أكد أنه "لا يزعجه من يعارضه ولكنه ينزعج ممن يعارض الدولة"، وفق تعبيره.
ويحمل خطاب السبسي، بحسب المصدر، تأكيداً على دعم رئيس حكومته، الشاهد، وبقائه إلى نهاية مدته النيابية أي إلى عام 2019، على الرغم من الاعتراضات والانتقادات التي توجهها بعض قيادات "نداء تونس" للشاهد في المدة الأخيرة ومن أقرب المقربين. ويضيف المصدر أن أي تعديل مقبل سيقتصر على بعض الوزارات وإجراء تغييرات على بعض الحقائب فقط، وهو ما يطالب به "الاتحاد العام التونسي للشغل" أيضاً بشكل ملح. لكن يبدو أن الخلاف يدور أساساً حول تفاصيل مهمة، أولها توقيت التعديل وإن كان سيجري قبل شهر رمضان أو بعده، والحقائب التي سيشملها التعديل والأحزاب التي ستستلمها، وتقييم مدى دعمها الفعلي لحكومة الشاهد.