الخبر أوردته الصحافة الجزائرية، ومفاده أن الدينار التونسي يصنّع في مصنع مختص في العملات المزورة في الصين، تحت الطلب، ويروج في مدينة العلمة من ولاية سطيف الجزائرية، فيباع في أسواقها بالميزان، ليتم تهريبه إلى تونس من عصاباتٍ تعمل في التجارة الموازية، تتولى ضخّه في الأسواق المحلية.
مرّ الخبر من دون ضجيج، فلم تعلق عليه السلطات التونسية، وتجاهلته وزارة المالية والبنك المركزي وأسواق المال والأعمال وكبار المستثمرين التونسيين ونقاباتهم، مثل الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ومنظمة كونفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية المعروفة بكونكت، واكتفت الصحافة بالإشارة إليه في نطاق حديثها عن الجرائم العادية المرتكبة في بلد مجاور.
لا يتعلق الأمر بمجرّد خبر أوردته الصحافة الورقية والمدونات الإلكترونية، وتمت صياغته على الوجه المرضي لاستقباله، واستيعابه واستبطانه، من الرأي العام الذي لامس أزمة الدينار التونسي، في معيشته اليومية في تسوقه ودراسة أبنائه ومنظومته الصحية وتنقلاته، وفي أفراحه وأتراحه، وحتى في قهوته التي يحتسيها كلّ صباح. وإنما هو اعتداء صارخ، نوعه جديد، تشتمّ منه رائحة الاحتقار والاستهتار والتلاعب بالدينار التونسي في تركيبته المعدنية. تلاعب، سيشمل، إن استمرت اللامبالاة الحكومية، كل القطع النقدية المعدنية الأخرى من فئة الدينارين والخمسة دينار، والعشرة دنانير التي تستعد لدخول مجال التعاملات النقدية، ناهيك عن طابعه الاستفزازي والإجرامي، إذ لا تفسير لبيع الدينار بالميزان غير تلك النعوت والأوصاف.
ليس الدينار مجرّد عملةٍ يتم تداولها محلياً، وإنما هو أحد رموز الدولة وسيادتها واستقلالها وخصوصيتها التي تستوجب الاحترام والصيانة، أو هكذا تمثلته الأجيال الأولى في دولة ما بعد الاستقلال، حين وضعوا حدا لمسيرة الفرنك الفرنسي عملة متداولة في تونس منذ عام 1891 وطوال 67 سنة، أخذت مكان ريال دولة البايات، واستبدلوه بالدينار التونسي عملة رسمية للجمهورية التونسية الناشئة والفتية التي حاول بعض رجالها الاستفادة من تراجع الاستعمار، وسطوته في ظل تنامي حركات التحرّر الوطني، وظهور الدول الوطنية. المفارقة التي يعيشها الدينار، أنه ينزاح من عليائه التي نشأ فيها، وترعرع مساوياً أكثر من غرامين من الذهب الخالص، متجاوزا آنذاك الدولار الأميركي والفرنك الفرنسي ونظيره السويسري، ليتحول في ستينيته التي يُوشك على الاحتفال بها السنة المقبلة إلى أكوام من الخردة التي تباع وتشترى في الأسواق الموازية التي يرتادها بعض التونسيين والجزائريين، ما يجعل منه وسيلة مستخدمة في مزيدٍ من تخريب وضع الدينار نفسه.
لم يكن هذا الوضع المزري الذي بلغه الدينار التونسي سوى نتيجة أزمة عميقة وحادّة، تردت فيها المالية العمومية التونسية التي تعيش منذ سنوات عديدة على وقع تدهور الدينار وانهياره أمام العملات الأجنبية، وخصوصا اليورو والدولار، ما أدى إلى فقدانه 25% من قيمته الحقيقية. لكن المسكوت عنه في حقيقة وضع الدينار المتردّي، حتى بلغ التطاول عليه أوجه، في حادثة بيعه بالميزان، هو خيانة المؤتمن التي اقترفها البنك المركزي التونسي، وهو الذي قام بصكه عملة وطنية سنة 1958. وهي خيانة مقننة، وردت في القانون الأساسي للبنك المركزي الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب سنة 2016، بموجبها صارت المؤسسة النقدية والمالية الأولى في تونس تتمتع بالاستقلالية عن الحكومة التونسية، وسياستها المالية والاقتصادية والنقدية، وهو مطلب قديم لصندوق النقد الدولي الذي كانت له اليد الطولى في صياغة هذا القانون، باعتراف وزير المالية الأسبق، وهو يرد على أسئلة النواب وتساؤلاتهم، عشية النقاش العام بقبة المجلس في باردو. لقد تخلى البنك المركزي التونسي سند الدينار وحاميه التاريخي عن عملته الوطنية، في فترة هي الأحلك في تاريخ تونس المالي والاقتصادي، بعد أن تجاوز حجم المديونية 70% من الناتج الوطني الخام، ما يجبر الحكومة على رصد ما يقارب الثمانية مليارات دينار لتسديد الدين وخدماته في موازنة سنة 2018، وفاق العجز في الميزان التجاري عشرة مليارات دينار، وباتت الدولة تقترض لتمويل الموازنة العامة وخلاص أجور موظفيها.
وكان الأجدى بالبنك المركزي أن يقف بالمرصاد لحماية الدينار من سياسات التوريد العشوائي التي فرضتها اتفاقيات تبادل تجاري دولية، وأخرى إقليمية، وثالثة ثنائية، على مرّ الحكومات المتعاقبة منذ زمن بن علي. وكان عليه أيضا أن يتدخل في السوق النقدية، لتعديلها كلما فقد الدينار قيمته أمام العملات الأجنبية، حتى يحمي المواطن التونسي وقدرته على العيش الكريم. لكنه على العكس من ذلك ترك الدينار يتيما يصارع الأمواج العاتية، ونهم الحيتان الكبيرة المحلية والأجنبية المهيمنة على الأسواق المالية. ولما حدّد البنك 220 منتوجاً يستورد بالعملة الصعبة، وله نظائر يتم انتاجها محليا، أصبح محل تندر، لعجزه عن منع هذه السلع لفوات الأوان.
كما بات معلوما لدى خبراء المال أن مخزون البنك من العملات الأجنبية الصعبة ينمو، بصفة رئيسية، بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنوك الأوروبية. وهذه القروض عادة ما تمنح للدولة التونسية لتسديد قروض سابقة، حلّ أجلها، وليس لأجل التنمية ومقاومة الفقر والتخلف، وهو ما يعني الاحتماء من الرمضاء بالنار، فهذه السياسة المالية تنقذ موقف الدولة في علاقاتها بمقرضيها، لكنها توفر الأرضية المناسبة لمزيد انهيار الدينار، وفقدان قدرته على الصمود والاستمرار. اشارت إلى هذا الوضع وزيرة المالية السابقة في حكومة يوسف الشاهد الأولى، معلنة أن قيمة اليورو ستبلغ ثلاثة دنانير قبل نهاية السنة الجارية، ما أدى إلى إقالتها من منصبها، لكن الإقالة لم تغير شيئا من حقيقة الدينار الذي أوشك تبادله في السوق المحلية على الوصول إلى ما ذكرته الوزيرة، وهي تعلم أن تخفيض الدينار إملاء من صندوق النقد على البنك المركزي أن لا يتدخل لاحتواء آثاره.
قد لا تكون العلاقة واضحة وجلية للعيان بين انهيار الدينار وبيعه بالميزان، لكن الحقيقة الأكثر جلاء هي أن تراجع الدينار وفقدان قيمته عملة وطنية محترمة، تعكس اقتصادا قويا يقوم على الإنتاج والاستثمار والتصدير، بدلا من التوريد والاستهلاك، وغياب استراتيجية واضحة من الدولة في حماية عملتها، هي التي أدت إلى التطاول على الدينار التونسي، والتلاعب به بعد أن بلغ أرذل العمر في ظل حكومة الوحدة الوطنية الائتلافية المكونة من حزبي نداء تونس والنهضة وأحزاب أخرى صغيرة، وعدت التونسيين بمئات مليارات الدولارات وبسنوات وردية في مستوى الاستثمار والتشغيل، فإذا بها تتحول إلى حقبة سوداء، ازدادت سوادا بما وصل إليه الدينار من تحقير وتراجع وانهيار.