كشف عالم الفيزياء الأميركي من أصول يابانية ميتشيو كاكو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء، من خلال أحدث كتبه، عن التقنية الجديدة التي جعلت تسجيل الذكريات وقراءة الدماغ وتصوير الأحلام فيديويّا والتحريك بالعقل أمورا ممكنة، موضحا أشكالا مختلفة من الوعي، والفرضيات المتنوعة للتحكم في الدماغ.
أكد عالم الفيزياء الشهير ميشيو كاكو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لمشاركته في نظرية الأوتار الفائقة، التي تعد من أحدث النظريات الموحدة للطاقات في الكون، في أحدث كتبه “مستقبل العقل.. الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته”، أن العقل والكون هما أعظم سرين من أسرار الطبيعة كلها.
وعلى الرغم من التقدم الواسع في التقنيات التي مكنت من تصوير مجرات تبعد عنا مليارات السنين الضوئية، والتصرف بالجينات التي تتحكم في الحياة، وتفحص المسار الداخلي للذرة، إلا أن العقل والكون مازالا يفلتان من البشر، ومازالا يثيران دهشتهم، إنهما الجبهتان الأكثر غموضا وإثارة في العلم.
واستعرض كاكو في كتابه تاريخ الدماغ، وشرح كيف أن مجموعة من الأدوات الجديدة تركت مخبر الفيزياء وأعطت صورا ملونة رائعة لآليات التفكير. ولأن الوعي يؤدي دورا محوريا في أي نقاش حول العقل، يقدم أيضا وجهة نظر فيزيائية تشمل مملكة الحيوان أيضا.
ترتيب الوعي
قدم كاكو في الحقيقة ترتيبا للوعي يظهر كيف أنه من الممكن تخصيص رقم لكل نوع من أنواع الوعي. كما أنه كشف عن التقنية الجديدة التي جعلت تسجيل الذكريات وقراءة الدماغ وتصوير الأحلام فيديويّا والتحريك بالعقل أمورا ممكنة. وتفحص أشكالا مختلفة من الوعي تتراوح من الأحلام والعقاقير والمرض العقلي إلى الإنساليات -كلمة منحوتة من الإنسان الآلي أو الروبوت- وحتى الغرباء من الفضاء الخارجي.
وتوقف كاكو طويلا أمام إمكانية التحكم في الدماغ وتوجيهه للتعامل مع أمراض مثل الاكتئاب والباركنسون والزهايمر والعديد من الأمراض الأخرى.
وتناول بالتفصيل بحوث الدماغ من خلال مشروع “تقنيات عصبية مبتكرة ومتطورة” (أو دماغ) الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، و”مشروع العقل الإنساني” للاتحاد الأوروبي، اللذين خصصا مليارات الدولارات لفك شفرة ممرات الدماغ نزولا إلى المستوى العصبي، مؤكدا أن هذين البرنامجين السريعان سيفتحان مساحات جديدة تماما للبحث العلمي، مما يعطي طرقا جديدة لمعالجة المرض العقلي، ولإظهار أعمق أسرار الوعي أيضا.
وأشار كاكو إلى أن أكثر التشبيهات حداثة تشبيه العقل بالإنترنت التي تطلق في الوقت نفسه مليارات الكمبيوترات. والوعي في هذه الصورة هو عبارة عن ظاهرة بارزة، تظهر بشكل معجز من العمل الجمعي لمليارات العصبونات. (مشكلة هذا التشبيه أنه لا يقول شيئا على الإطلاق عن كيفية حدوث هذه المعجزة.
إنها تطوي تعقيد الدماغ كله تحت عباءة نظرية الشواش). لا شك في أن كلا من هذه التشبيهات يمتلك جزءا من الحقيقة، لكن لا يلتقط أي منها تعقيد الدماغ تماما. لكن مع ذلك يوجد أحد التشبيهات المفيدة بالنسبة إلى الدماغ (على الرغم من أنه لا يزال ناقصا)، وهو تشبيهه بمؤسسة ضخمة. في هذا التشبيه، هناك نظام بيروقراطي ضخم، وخطوط اتصال، وتدفقات كبيرة للمعلومات تجري بين مختلف الأقسام. لكن المعلومات المهمة تنتهي في مركز التحكم مع مدير المؤسسة. وهناك تتخذ القرارات النهائية.
وفسر كاكو تشبيه العقل بمؤسسة ضخمة بعدد من الخصائص الخاصة بالدماغ، ومن بينها نقطتان؛ الأولى: تتمركز معظم المعلومات “في اللاوعي”؛ أي أن المدير، لحسن الحظ، غير مدرك للمعلومات الهائلة والمعقدة التي تتدفق باستمرار داخل بيروقراطيته.
ولا تصل في النهاية إلى طاولة المدير العام إلا كمية ضئيلة فقط من المعلومات، التي يمكن مقارنتها بالقشرة الجبهية للدماغ. وعلى المدير العام أن يعرف المعلومات المهمة التي تثير اهتمامه فقط، وإلا فسوف يشل بفيض هائل من المعلومات الدخيلة. وربما كان هذا النظام منتجا ثانويا لعملية التطور، لأن الأسلاف كانوا سيغمرون بمعلومات فائضة في اللاوعي عندما يواجهون حالة طارئة. والبشر اليوم من حسن الحظ غير واعين بتريليونات الحسابات التي تعالج في أدمغتهم. وعند مواجهة مخاطر في غابة، ليس على المرء أن يعبأ بحالة معدته وأصابع قدميه وشعره… إلخ. كل ما يجب معرفته هو كيف يهرب.
أما النقطة الثانية فهي محاولات مستمرة لنيل اهتمام المدير العام: ليس هناك قزم أو معالج مركزي أو شريحة بنتيوم تتخذ القرارات، بدلا من ذلك فإن المراكز الفرعية ضمن مركز التحكم هي في حالة تنافس دائم بعضها مع بعض من أجل الحصول على اهتمام المدير العام. لذا ليس هناك نمط مستمر ناعم وثابت للتفكير، لكنّ هناك تداخلا لدارات مختلفة من التغذية الراجعة يتنافس بعضها مع بعض. إن فكرة وجود “أنا” ككل موحد ووحيد يتخذ القرارات كلها باستمرار هي وهم خُلق من عقول البشر اللاواعية.
وقال كاكو “عقليا، نشعر بأن عقلنا هو وحدة مفردة، يعالج المعلومات باستمرار وسلاسة، ويتحكم تماما في قراراتنا”. وأوضح “أخبرني بروفسور الـ’إم أي تي’ مارفين مينسكي، وهو أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي، أن العقل أشبه بـ’مجتمع من العقول’ بنماذج فرعية مختلفة يحاول كل منها التنافس مع الأخرى. وعندما قابلت ستيفن بينكر، وهو عالم نفسي في جامعة هارفارد، سألته كيف يظهر الوعي من هذه الفوضى، قال إن الوعي مثل عاصفة تهب في دماغنا.
وأفاض في هذا عندما كتب أن الشعور البديهي لدينا بأن هناك ‘أنا’ منفذة تجلس في غرفة التحكم في دماغنا، تمسح شاشات الحواس، وتضغط على أزرار عضلاتنا، هو مجرد وهم، يبدو أن الوعي يتألف من خليط من الحوادث الموزعة على الدماغ تتنافس هذه الحوادث لنيل الانتباه. وعندما يتفوق حدث على آخر، يعقلن الدماغ النتيجة بعد الحقيقة، ويخترع الانطباع بأن ذاتا واحدة كانت تتحكم في العملية طوال الوقت”.
ولفت كاكو إلى أن مسوحات الدماغ الحديثة ألقت ضوءا جزئيا على كيفية تمثيل الدماغ للمستقبل. وتتم هذه التمثيلات في القشرة أمام الجبهية بشكل رئيس، وهي المدير العام للدماغ، باستخدام ذكريات الماضي. من جهة، ربما تعطي تمثيلات المستقبل نتائج سارة ومرغوبا فيها، حيث تلمع مراكز اللذة في الدماغ (بالنواة المتكئة في المهاد).
ومن جهة أخرى، قد تكون لهذه النتائج سلبيات، فتعمل القشرة الجبهية الحجاجية على تحذير البشر من الأخطار المحتملة. هناك صراع إذن بين أجزاء مختلفة من الدماغ فيما يتعلق بالمستقبل، والذي قد تكون له نتائج مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها. في النهاية، فإن القشرة أمام الجبهية هي التي تتوسط بين هذه الأجزاء، وتتخذ القرارات النهائية.
تصوير فيديوي لأفكار الناس
يرى كاكو أن “الوعي بالذات هو عملية خلق نموذج للعالم، وتمثيل المستقبل الذي تظهر أنت فيه. لذا تمتلك الحيوانات بعض الوعي بالذات، لأن عليها أن تعرف مكانها إذا كان عليها البقاء على قيد الحياة والتزاوج، لكن هذا الوعي بالذات مقتصر على الغريزة إلى حد كبير.
عندما توضع معظم الحيوانات أمام مرآة، فإنها إما أن تهملها وإما أن تهاجمها، غير مدركة أن الآخر هو صورة لها. (يدعى هذا “اختبار المرآة”، الذي يعود إلى داروين). على الرغم من ذلك، فإن الحيوانات كالفيلة والقردة العليا والدلافين والغربان الأوروبية يمكنها أن تعرف أن الخيال الذي تراه في المرآة يمثلها”.
وأضاف “يتقدم البشر مع ذلك خطوة كبيرة إلى الأمام، ويجرون باستمرار تمثيلات مستقبلية يظهرون هم فيها كعامل رئيس. نتخيل أنفسنا دوما مواجهين بظروف مختلفة -الخروج في موعد، والتقدّم إلى وظيفة، وتغيير المهنة- حيث لا يحدد أي منها بالغريزة. من الصعب جدا إيقاف دماغك عن تمثيل المستقبل، على الرغم من تصميم طرق معقدة لمحاولة فعل ذلك التأمل أو أحلام اليقظة، على سبيل المثال، تتألف عموما من تنفيذنا لعمليات مستقبلية مختلفة ممكنة للوصول إلى هدف.
وبما أننا نتباهى بمعرفتنا نقاط قوتنا وضعفنا، فليس من الصعب وضع أنفسنا ضمن النموذج، وضغط الزر “العب”، بحيث نبدأ في تمثيل سيناريوهات افتراضية كأننا ممثلون في مسرحية افتراضية”.
وتناول كاكو فيديوهات الدماغ حيث دخل إلى مختبر د.غالانت في جامعة كاليفورنيا – بيركلي، إذ حققت مجموعة د.غالانت إنجازا اعتبر مستحيلا وهو تصوير فيديوي لأفكار الناس، إذ قال د.غالانت “هذه خطوة كبيرة للأمام، لإعادة تشكيل التخيل الداخلي، نحن نفتح نافذة على الأفلام في دماغنا”.
وأفاد كاكو “عندما زرت مختبر د.غالانت، كان أول شيء لاحظته هو فريق من طلبة الدراسات العليا ومن مساعدي الباحثين المتحمسين يتجمعون أمام شاشات كمبيوتراتهم، ينظرون بإمعان إلى صور فيديوية أعيد تركيبها من مسح دماغي لشخص ما، وبالحديث إلى فريق غالانت تشعر كأنك تشهد عملية صنع للتاريخ العلمي.
شرح لي غالانت أن الشخص يمدد على نقالة تدخل ببطء من ناحية الرأس أولا ضمن آلة ‘إم آر اي’ ضخمة حديثة، تصل تكلفتها إلى 3 ملايين دولار. ثم تعرض على الشخص عدة مقاطع من فيلم مثل مشاهد من أفلام موجودة على اليوتيوب، لجمع بيانات كافية، وعلى الشخص أن يجلس من دون حراك لساعات يراقب هذه المقاطع، وهي مهمة صعبة حقا. سألت أحد مساعدي البحث الدكتور شينجي نيشيموتو، كيف وجدوا متطوعين راغبين في الاستلقاء لساعات أمام أجزاء فقط من لقطات فيديوية لتمضية الوقت. قال إن طلبة الدراسات العليا ومساعدي البحوث تطوعوا ليكونوا حقل تجارب لبحوثهم”.
وأضاف “وبينما يشاهد الشخص الأفلام، تخلق آلة الـ’إم آر اي’ صورة ثلاثية الأبعاد لتدفق الدم ضمن الدماغ. وتبدو الصورة مثل مجموعة ضخمة مؤلفة من ثلاثين ألف نقطة أو فوكسل. يمثل كل فوكسل نقطة من طاقة عصبية، ويتعلق لون النقطة بشدة الإشارة وتدفق الدم. تمثل النقاط الحمراء مؤشرات ناجمة عن نشاط عصبي كبير، بينما تمثل النقاط الزرقاء مؤشرات ناجمة عن نشاط أقل.
(تبدو الصورة النهائية مثل الآلاف من أضواء عيد الميلاد على شكل دماغ. فورا يمكنك رؤية أن الدماغ يركز معظم طاقته العقلية في القشرة البصرية، التي تقع في مؤخرة الدماغ، بينما تراقب هذه الفيديوهات). إن آلة الـ’إم آر اي’ لغالانت قوية جدا بحيث تستطيع تمييز مئتي إلى ثلاث مئة منطقة مختلفة من الدماغ، ويمكنها في المتوسط أخذ لقطات قصيرة تتضمن مئة نقطة لكل منطقة في الدماغ. في البداية، يبدو هذا التجمع ثلاثي الأبعاد للنقاط الملونة من دون أي معنى”.
وأشار كاكو إلى أن الحضارة البشرية كلها مبنية على فكرة الإرادة الحرة، التي تؤثر في فكرة الثواب والعقاب، والمسؤولية الشخصية. وتساءل: هل الإرادة الحرة موجودة فعلا؟ أم هي طريقة ذكية لتحقيق ترابط المجتمع على الرغم من أنها تخالف المبادئ العلمية؟
وقال “من المضمون القول إن عددا متزايدا من علماء الأعصاب وصل تدريجيا إلى استنتاج أن الإرادة الحرة غير موجودة، على الأقل ليس بالمعنى المألوف. إذا أمكن ربط بعض التصرفات الغريبة بأعطال معينة في الدماغ، فالشخص غير مسؤول علميا عن الجرائم التي قد يرتكبها.
قد يكون من الخطر تركه يمشي في الطرقات، ويجب حبسه في مؤسسة من نوع ما، لكن معاقبته بسبب ضربة أو ورم في دماغه أمر خاطئ كما يقولون. ما يحتاجه ذلك الشخص هو المساعدة الطبية، أو العلاج النفسي. ربما أمكن علاج العطل الدماغي (بإزالة الورم على سبيل المثال) ويمكن للشخص بعدها أن يصبح عضوا فعالا في المجتمع”.
وأوضح “عندما قابلت د.سيمون بارون كوهين، وهو عالم نفس في جامعة كامبريدج، أخبرني أن العديد من القتلة السفاحين (لكن ليس الجميع) لديهم خلل دماغي، تظهر مسوحات أدمغتهم أنهم يفتقرون إلى التعاطف عندما يرون شخصا آخر يتألم، وربما يسرون في الحقيقة بمشاهدة هذا التألم (في هؤلاء الأفراد تلمع اللوزة الدماغية والنواة المتكئة، وهما مركزا السرور عندما يرون فيلما لأناس يتألمون).
الاستنتاج الذي يمكن لبعض الناس الوصول إليه من هذا هو أن هؤلاء الناس ليسوا مسؤولين حقا عن أفعالهم الشنيعة، على الرغم من أنه يجب فصلهم عن المجتمع. هم يحتاجون إلى المساعدة وليس إلى العقاب، نظرا إلى وجود مشكلة في أدمغتهم. بمعنى ما، ربما لا يتصرفون بإرادتهم الحرة عندما يقترفون جرائمهم”.
وأضاف كاكو “هذا يعني أن الإرادة الحرة بمعنى ما، زائفة. فالدماغ يتخذ القرارات مسبقا، من دون مدخل الوعي، ثم يحاول الدماغ بعد ذلك أن يغطي ذلك بادّعاء أن القرار حصل بالوعي. يستنتج د.مايكل سويني ‘اقترحت نتائج ليبيت أن الدماغ يعلم ما سيقرره شخص قبل أن ينفذه، على العالم أن يعيد تقييم ليس فكرة الحركات المنقسمة بين الإرادية واللاإرادية، لكن أيضا فكرة الإرادة الحرة ذاتها. يشير هذا كله إلى أن الإرادة الحرة، وهي حجر الزاوية في المجتمع، هي اختراع ووهم خلق من قبل نصف الدماغ الأيسر.
لذا، هل نحن أسياد مصائرنا، أو هل نحن مجرد أحجار شطرنج نتحرك من الدماغ في لعبة ما؟ هناك طرق عدة لمقاربة هذا السؤال الصعب. تذهب الإرادة الحرة ضد فلسفة تدعى الحتمية، تقول ببساطة إن حوادث المستقبل كلها محددة بقوانين الفيزياء. وفق نيوتن نفسه، العالم نوع من ساعة تدق باستمرار منذ بدء الخلق وتطيع قوانين الحركة. وبالتالي فالأحداث كلها يمكن التنبؤ بها”.