تتناسج اللغات وتتوالد من بعضها البعض وتتأثر ببعضها البعض، وهذا ما أثبته علم اللسانيات، كما تفرعت اللغة العربية من لغات سابقة لها، بين من يقول بأصولها السامية وآخرين ينكرون ذلك، بين من يرى أصولها من شمال شبه الجزيرة العربية ومن يراها في جنوبها. لكن العربية بدورها أثّرت في لغات أخرى من العالم، حتى أن هناك بحثا يقول إن أصول اللغة الفرنسية عربية.
الجزائر - طرح الباحث والكاتب الجزائري بن عيسى درياسة، مؤلفا مثيرا للجدل ضمنه أطروحة تؤسس لأصول عربية شامية للغة الفرنسية، عكس كل النظريات القائلة بالمصادر الإغريقية واللاتينية للغات الغربية الحديثة، ويرى أن السر يكمن في تقصير الكلمات وتعديل الحروف، وأن الأمر يتعدى حدود التأثير والتأثر الناجم عن الاحتكاك، إلى إرادة إفرنجية خلال حقبة المماليك، لتأسيس لغة حديثة آنذاك تواكب العلوم والمعارف المنتشرة في المشرق.
الأصول العربية
يحيل كتاب “الراجح في أصول اللغة الفرنسية ” لبن عيسى درياسة، القارئ إلى شيء من الغرابة الممزوجة بالجد والدهشة، كونه أعاد إحياء مسألة تتداول على نطاق ضيق وبشكل خجول إن لم يكن طريفا، وذلك عبر عقد من الزمن قضاه في البحث والتقصي، عن علاقة مفترضة مما يسميه بـ”الأصول العربية الشامية للغة اللاتينية والفرنسية على وجه التحديد”.
وخاطبه الأستاذ حبيب مونسي بالقول “أنت تمتلك حاسة لغوية في غاية الطرافة والجدة.. وإن سبلك في تخريج الكلمات وردها إلى أصولها، مستعينا بالتاريخ والفنولوجيا والنصوص الدينية وغيرها، يكشف عن طاقة كبيرة في التحليل والتأويل وإرجاع الأصوات إلى أصولها، وربما سيخرج المتتبع لدراساتك أن أصل اللغة واحد لجميع الألسنة وأن اللغات اليوم هي تفريعات عن لغة أم واحدة يسهل الوصول إلى أصلها الصوتي والجغرافي كذلك”.
ويضيف “أحسب أن ما تقوم به من أبحاث وما تستخرجه من ألفاظ، سيشكل ثروة لغوية تمكن الدارسين من بعد، من الوقوف عليها لمراجعتها واستنباط الأدوات المنهجية من طريقتك في معالجتها.. لست مختصا في هذا المجال ولكني أقول صادقا إن ما أتيت به من دراسات سيشكل حيرة علمية لدى المختصين قبل غيرهم من المثقفين”.
ويتابع مونسي مخاطبا بن عيسى درياسة “هنا سيفتح عليها واحد مثلك في القرن الواحد والعشرين، أبواب تجديد السؤال، والانتقال من التسليم الفج إلى المساءلة العلمية التي ستعيد كتابة تاريخ اللغات، والاعتراف أخيرا أن الناس كانوا أمة واحدة، ثم تفرقوا في البلاد لأسباب بيئية ومعيشية وحروب وكوارث وغيرها من الأسباب التي تفرق الجماعات، وتدفع بها إلى الهجرات بعيدا عن محاضنها الأولى”.
خارج الأسوار
على هامش الصالون الدولي للكتاب المنتظم نهاية الشهر المنقضي ومطلع الشهر الجاري بالعاصمة الجزائرية، التقت “العرب” بالباحث والكاتب بن عيسى درياسة، في جناح دار المعرفة التي أصدرت الجزء الأول من “الراجح في أصول اللغة الفرنسية”، وحاولت استنباط الممكن من تبريرات الباحث لهذا الطرح.
وقال “هذا الكتاب هو عبارة عن أطروحة جديدة، أقول فيها إن أصل اللغة اللاتينية وخاصة الفرنسية، هو اللهجة الشامية العربية، وأن الكلمة الفرنسية عبارة عن تقصير للكلمة أو الجملة الشامية، وتعديل الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية”.
وأضاف “هذه اللغة الجديدة التي اكتسبها الفرنجة، مكنت اللاتين والفرنسيين من اكتساب لغة جديدة تهتم بالعلم والمعرفة، وتعود مرحلة الاكتساب إلى زمن المماليك، خاصة خلال الحروب الصليبية، حيث مكث الفرنجة في منطقة الشام قرنين كاملين، إذ عملوا على تأسيس العديد من الحواضر، وكان لزاما عليهم إنتاج لغة لتسهيل التواصل مع السكان الأصليين، والتأسيس لعصر العلوم والمعارف في الغرب”.
وعن سؤال حول كيفية التوصل إلى هذا الاستنتاج المنافي لما هو متداول، يرى أن الخلاصة التي توصل إليها جاءت من خلال البحث في أصل الكلمة اللاتينية ومخارجها، التي تلمح إلى أصولها العربية الشامية، وتحيل الباحث إلى استنباط المصدر.
ويرى بن عيسى دراسة، ذو التكوين الأكاديمي الفرنكفوني، أن “تفرع اللاتينية، إلى اللغات الأربع، جاء وفق حركات اللغة العربية، فاستعملت اللغة الفرنسية السكون، الإسبانية الفتح، والبرتغالية الضم، والإيطالية الكسر”.
وقال “عملي تركز على اللغة الفرنسية، للعلاقة الوثيقة بينها وبين اللغة العربية الشامية التي تتضمن 12 لهجة، ولم أعمد إلى انتهاج النظريات الأكاديمية المتداولة، وإلا لما توصلت إلى هذه الخلاصة”.
وأضاف “المسألة تكمن في تقصير الكلمة، وتعديل في بعض الحروف، واللغة الأصلية للغرب الراهن لم تكن لغة علم ومعرفة، والإثراء من اللهجة الشامية كان بغرض اكتساب معارف وعلوم جديدة، والتحكم في حضارة ذلك العصر”.
ويعترف الباحث بأن “المراجع العلمية والأكاديمية لا تعترف بمثل هذا الطرح الجديد، لأنها منغلقة ومنحصرة وفق خطوط مرسومة، لكن المهم هو طرح الأسئلة المثيرة، وإثارة الحيرة، فكل الإنجازات الكبرى للإنسانية انطلقت بعيدا عن الترف العلمي”.
ويقول درياسة “لو انتهجت طروحات الأكاديميّين، لانقدت مباشرة لأحكامهم المعلبة، والقول إن الإغريقية واللاتينية هما أصل اللغة الفرنسية، وأنا اخترت طريقتي الخاصة للوصول إلى هذه المقاربة، والأفكار ليست بالضرورة أيضا بين دفات المؤلفات ورفوف الجامعات”.
ويضيف “العمل المنجز كما زودني بشهادات مشجعة، أحالني أيضا إلى مشاكسات مع الأكاديميين، وما زلت أصر على أن هؤلاء أسرى موروثاتهم العلمية، والدهشة التي صنعها العصاميون مهدت الطريق في معظم الأحيان لإنجازات كبيرة على امتداد التاريخ البشري ، فالأفكار والإبداع ليسا بالضرورة من السكان الأبديين داخل أسوار الجامعات”.