الاختراق الحيوي أمل الجنس البشري للتحايل على الموت وضمان الخلود.
يوجد بين البشر من هو مثل الشاعر المخضرم، زهير بن أبي سلمى، الذي سئم تكاليف الحياة، لأنه عاش ثمانين حولا. وهناك آخرون مثل، جلجامش، ملك أوروك السومري، أول الباحثين عن الخلود، لم يتركوا ركنا إلا بحثوا فيه عن سر الخلود. وبينما بحث الملك السومري عن سر الخلود في أعماق دلمون، يبحث أحفاده اليوم عن سر الخلود في رقاقة إلكترونية.
لندن – إلى أين تمضي جلجامش؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها. عندما خلقت الآلهة البشر، جعلت الموت لهم نصيباً، وحبست في أيديها الحياة.
أما أنت، فاملأ بطنك. افرح ليل نهار. اجعل من كل يوم عيداً. ارقص لاهياً. اخطر بثياب نظيفة زاهية. اغسل رأسك واستحم بالمياه. دلل صغيرك، وأسعد زوجك بين أحضانك. هذا نصيب البشر.
كل المحاولات التي بذلت لإقناع جلجامش، بالتراجع عمّا عزم عليه باءت بالفشل.
مضى جلجامش في رحلته متحدياً المخاطر للبحث عن ضالته، ليعود خائباً بعد رحلة طويلة شاقة، فالعشبة السحرية التي تمنح الخلود، والتي اقتلعها من أعماق بحر دلمون، ابتلعتها أفعى ضخمة.
عاد الملك إلى أوروك حزيناً، وعندما اقتربت سفينته من أسوار المدينة الضخمة التي شيدها بنفسه، أدرك أن هذه الأسوار المتينة هي التي ستخلّد اسمه وأنه لا بد أن يموت يوماً.
الباحثون عن الحياة الأبدية اليوم، لا تثنيهم المخاطر عن ضالتهم، ولكنهم لا يبحثون عن عشبه سحرية في أعماق دلمون، بل يبحثون عن رقاقة إلكترونية في عالم التكنولوجيا الرقمية.
ليس كل من يلجأ إلى هذه العمليات من عشاق التكنولوجيا بل هدف البعض إطالة حياته والتحول إلى إنسان متفوق أو خارق
في عام 2015 لفت الروسي، فلاديسلاف زايتسيف، الاهتمام عالمياً، عندما لجأ إلى إذابة بطاقة لركوب قطار الأنفاق بمادة الأسيتون، واستخرج منها الشريحة الإلكترونية وغلفها بالسيليكون، قبل أن يزرعها في يده، وقام بتصوير العملية، ونشرها على موقع يوتيوب. بعد أن اضطر إلى التوقف عن دراسة الطب، لجأ زايتسيف إلى زراعة شرائح إلكترونية تحت جلد بعض الأشخاص الراغبين في ذلك، تسهل القيام ببعض الخدمات اليومية، مثل دخول المكاتب.
وسرعان ما تطوّر المشروع، الذي اقتصر في البداية على البطاقات المصرفية، وأخرى لتسلية الأصدقاء، إلى زراعة شرائح بهدف السيطرة على الجسم، يأمل من ورائها إطالة العمر والعيش لفترة أطول.
زرع زايتسيف نحو ألف شريحة، لعدد من الأشخاص الذين أبدوا الاهتمام بالتجربة. وللقيام بذلك، يُحدث شقا بالجلد، بين الإبهام والسبابة، يدخل فيه قطعة صغيرة أسطوانية الشكل، هي شريحة، توضع تحت الجلد.
ويقول أليسكي راوتكين، وهو خبير في البرمجة أيضاً، “قررت القيام بذلك منذ فترة طويلة.. الأمر عملي وفريد، لم يسبق أن قام به أحد من قبل”.
ورغم قلق البعض من أخطار المراقبة والقرصنة، تزرع رقاقات لتشغيل السيارات أو الهواتف والحواسيب والطابعات، أو ضبط الحرارة، وحتى تحزين البيانات الطبية.
وإن كان البعض يقومون بزراعة الشرائح في أجسامهم بهدف تسهيم المهمات اليومية، إلا أن البعض منهم يقوم بذلك للسيطرة الشاملة على الجسم، بحثا عن الخلود، أو أملا بالعيش فترة أطول. ويتم استخدام التقنية أيضا في علاج العيوب الجينية.
لا يزال عدد المحترفين لتلك التقنية قلة، إلا أن منتديات الإنترنت والمؤتمرات والشركات المتخصصة حول هذا الموضوع في ازدياد. وقد حصلت بعض الشرائح على الموافقة للاستخدام البشري، إلا أن تلك التي يستخدمها زايتسيف موجهة في الأساس إلى الأطباء البيطريين، وهي مصنوعة في تايوان، ويمكن طلبها عبر الإنترنت.
وتكلف عملية زرع الرقاقة 32 دولارا، يقوم بإجرائها في شقته الصغيرة، مؤكدا أنه قام بإجراء خمسين عملية مشابهة، وعادة ما يكون الراغبون في مثل تلك العمليات أشخاصا مهووسين بالتكنولوجيا، وتقل أعمارهم عن الخامسة والثلاثين.
ليس كل من يلجأ إلى هذه العمليات من عشاق التكنولوجيا، فهدف، ستانيسلاف سكاكون، من زرع الإكسسوار هو إطالة حياته، والتحول إلى “إنسان متفوق” أو خارق. وينتمي كلّ من زايتسيف وراوتكين إلى حركة تعرف باسم “بايوهاكينغ” (الاختراق الحيوي) التي انطلقت من سيليكون فالي في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وانتشرت على نطاق واسع، وتهدف إلى تحسين جسم الإنسان بإضافة إكسسوارات إليه.
وعلى الرغم من أن الاختراق الحيوي قد يمثل مصطلحًا جديدًا على مسامع بعض الناس، إلا أنه يتضمن العديد من الأشياء التي يتم إجراءها فعليا، أو التي هناك رغبة في إجرائها، ويتمحور الهدف كليّا حول فكرة التحسين، حيث أن ملاحقة التقدم متأصل في الطبيعة البشرية، فنحن جميعا نرغب أن تكون الأشياء أسهل وأفضل وأسرع وأكثر كفاءة، وعلى قمة قائمة اهتماماتنا هو جسمنا نفسه .
إلا أن أجسامنا بالطبع معرضة للأمراض، والتقدم في السن، والعوامل البيئية وحدودنا الشخصية الخاصة، ولكن ماذا سيكون عليه الحال لو أن أجسادنا لا تتعرض لمثل تلك العوامل السلبية والمرضية؟ إن تحسين بيولوجيا أجسامنا لم يعد خيالًا علميًا، ويمكن أن تكون نتائج ذلك التحسين مبهرة. مواضيع كانت منذ عقدين من الزمن خيالًا علميًا، أصبحت قابلة للتحقيق مستقبلا بفضل تكنولوجيا الاختراق الحيوي .
يمكنك تتبع أشياء مثل معدل ضربات القلب، ودورات النوم، ومستوى السكر في الدم، وعداد الخطوات، وحتى سرعة ومسافة تدريباتك الرياضية، وبمجرد حصولك على هذه المعلومات يمكنك تتبع جهود الاختراق الحيوي التي تبذلها بدقة تخيل عالمًا يمكن أن يحصل فيه مبتورو الأطراف على أطراف صناعية تعمل بشكل كامل، وماذا عن رقاقة صغيرة يمكنها أن تخبر طبيبك بالضبط عمّا يدور بداخل جسمك؟ تصوّر جنودا أو عمال مهرة لديهم قوة خارقة.
التغذية والتمارين الرياضية مثالين للاختراق الحيوي، وتعني تغذية الاختراق الحيوي اتخاذ خيارات غذائية أكثر صحة، لدعم وظائف الجسم بشكل مثالي.
أما تمارين الاختراق الحيوي فهي بباسطة أن نقرر أننا نرغب في فقدان الوزن أو بناء عضلات والمشاركة في الأنشطة التي تحقق هذه النتائج، فإن وضع مدخلات أفضل يجعلنا نحصل على مخرجات أفضل، وتمثل تلك المخرجات سلوكنا وصحتنا وأداءنا . يقول ستانيسلاف سكاكون “لم أعثر بعد على الرقاقة التي تطيل الحياة”. ومع ذلك يواظب على زيارة عيادة خاصة، حيث تسحب منه عينة من الدم تكفي لملء حوالي 20 أنبوب اختبار، تحدد نتائجها طريقة عيشه وما يتناوله من غذاء ومكملات غذائية.
هذه الزيارات هي جزء من روتين دقيق يلتزم به منذ خمس سنوات.
ويرفض سكاكون الكشف عن تفاصيل حميته، إلا أنه لا يمانع في الكشف عن بعض المكملات الغذائية التي يتناولها، وتشمل اليود، وفيتامين (د)، والمغنيزيوم والبروبيوتيك (بكتريا مفيدة).
إضافة إلى ذلك، يجري سكاكون التحاليل الجينية، لتحديد أي عامل وراثي يشكل خطرا على صحته، ويقيس مستوى الكوليستيرول، والسكري، وكثافة العظم ومستوى هرمون الإجهاد (كورتيزول).
ويؤكد أن عمره البيولوجي، لم يتغير خلال السنوات الخمس الأخيرة، ويعرب عن أمله بالعيش لفترة طويلة، ليشهد التقدم العلمي الذي من شأنه أن يطيل أمد الحياة.
وهو يؤمن أن العلم سيجد حلا لأمراض مستعصية مثل للسرطان، والزهايمر، والأمراض القلبية الوعائية، وبالتالي يمكن أن يتجاوز الجنس البشري كل أسباب للوفاة. ويشكل ذلك فكرة أساسية في مفهوم “الإنسان الفائق” وفق طبيب أمراض الشيخوخة البريطاني المثير للجدل، أوبري دي غراي، الذي يؤكد أن البشر لن يموتوا مستقبلا إلا من جراء الحوادث.
في سعيهم هذا إلى الحياة الأبدية، اختار البعض العلاج الجيني، وهو من المجالات الواعدة في الأبحاث الطبية الحديثة.
وكان الأميركي، جوسيا زينير، أثار ضجة العام 2017 عندما بث مباشرة محاولة لتعديل مورّث بفضل تقنية كريسبر الملقبة “المقصات الجزيئية”، وهي أداة ثورية طورت عام 2012، تبسط تقنيات تعديل الحمض النووي.
إلا أن السلطات الطبية ووكالة الأدوية والأغذية الأميركية تحذر من استخدام هذه “المقصات” المتوافرة في السوق للاستخدام الفردي.
ويقول عالم الأحياء الروسي ماكسيم سكولاتشيف المتخصص في العمر المديد في جامعة موسكو العامة إن أتباع “البايوهاكينغ” ربما هم على حق عندما قالوا إن بالإمكان إبطاء الشيخوخة، أو حتى وقفها بشكل كامل.
اليوم، نعتبر الشيخوخة جزءا من برمجتنا الوراثية، والطريقة الوحيدة لمكافحة الشيخوخة، حسب سكولاتشيف، هي تحطيم هذا البرنامج الوراثي أي، إن جاز التعبير، اختراقه. بهذه الطريقة تمكن محاربة العواقب الناجمة عن التقدم بالسن والسرطان، ليصبح العيش حتى سن المئة هو المعيار.