تحذيرات متصاعدة من تحركات تستهدف إعادة التونسيين إلى مربع الانقسامات.
سلط الكشف عن وجود فنادق في تونس تستضيف ما يُعرف بالسياحة الحلال الضوء مجددا على حجم تغلغل الإسلاميين في المجتمع والآثار التي تركوها بعد سنوات قضاها هؤلاء في الحكم، فمن المدارس القرآنية إلى تقديم دروس خارج المناهج التعليمية التي تعتمدها وزارة التربية في بعض المدارس وصولا إلى السياحة الإسلامية بدأت تتكشف المظاهر التي راهن عليها الإسلاميون لتحقيق غايات مختلفة أبرزها توفير حاضنة شعبية لمشاريعهم السياسية عبر أنشطة دعوية تنبه منها العديد من المنظمات في تونس.
تونس - عكس الجدل المُتصاعد الذي تعرفه تونس بشأن ما يُعرف بالسياحة الحلال حجم المطبات التي ستعترض التونسيين في تفكيك المنظومة التي نجح الإسلاميون لسنوات قضوها في الحكم في بنائها.
فبالرغم من أن الخصوم حاولوا حصر الصراع مع الإسلاميين وفي مقدمتهم حركة النهضة، التي أمسكت بزمام الأمور طيلة 10 سنوات، في إطار الصراع السياسي إلا أن الإسلاميين راهنوا جديا على خيارات مجتمعية بعينها بغية فرض تصورهم للمجتمع وطريقة عيشه.
وتواترت منذ فترة أحداث كشفت عن آثار اجتماعية تركتها تلك السنوات التي أدار فيها الإسلاميون الحكم من الصعب محوها حيث تعرف تونس العديد من الظواهر التي تبدو وكأنها تستهدف ترسيخ أفكار بديلة عن القيم الوسطية والمعتدلة التي جرى العمل على تكريسها منذ قيام الدولة الوطنية إثر حصول البلاد على استقلالها في العام 1956.
وإلى جانب السياحة الإسلامية التي عاد الجدل بشأنها بقوة منذ أيام، تواجه تونس ظواهر أخرى على غرار تدريس المدرسين في بعض الجهات بلباس أفغاني وتقديم دروس من خارج المناهج التعليمية المعتمدة حيث تم رصد أكثر من حالة في وقت سابق كشفت عنها تقارير لمنظمات حقوقية.
كما تم قبل أشهر اكتشاف مدارس قرآنية فوضوية أحدثت حالة من الصدمة، لكنها سلطت الضوء على محاولات الإسلاميين وفي مقدمتهم حركة النهضة وتكتلات سياسية مقربة منها المراهنة على تغيير النمط المُجتمعي في البلاد بما يحقق لهم العديد من الغايات على غرار توفير حاضنة شعبية.
وبالرغم من أنها تقول إنها فصلت بين الدعوي والسياسي، إلا أن حركة النهضة الإسلامية التي باتت تواجه مستقبلا يكتنفه الكثير من الغموض بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد القاضية بتجميد عمل واختصاصات البرلمان وإقالة الحكومة، استماتت مؤخرا في الدفاع عن اتحاد علماء المسلمين الذي له فرعان في تونس وذلك في مواجهة مطالبات بإغلاقهما أطلقها الحزب الدستوري المعارض بتهمة نشر التطرف.
سجالات متصاعدة
أعادت تقارير إعلامية محلية بشأن إيقاف عنصر متطرف وُصف بالخطير حضر جولة من جولات السياحة الإسلامية في مدينة طبرقة شمال غرب تونس إلى الواجهة السجالات بشأن هذه الظاهرة التي باتت بعد ثورة الرابع عشر من جانفي 2011 التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي أداة أخرى من الأدوات التي يراهن عليها الإسلاميون جديا لترسيخ أفكارهم بما يخدم مشاريعهم السياسية.
ويُشير مصطلح “السياحة الحلال” إلى الفنادق والمنتجعات السياحية التي لا تقدم ما يتعارض والشريعة الإسلامية على غرار الخمر، وتعرف مواقع التواصل الاجتماعي ترويجا واسعا لشركات السياحة الإسلامية التي تضع على ذمة رواد تلك المنصات خدماتها وكل ما يريدون معرفته عنها.
وقالت وسائل إعلام محلية إنه لوحظ أداء ما لا يقل عن 528 شخصا للصلاة على مقربة من المسبح في مدينة طبرقة، وانتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم حيث فجر جدلا واسعا بين مؤيدين لهذا الشكل الوافد من السياحة ورافضين له.
ولم تتردد العديد من الأطراف في الإعراب عن مخاوفها من أن تكون الظاهرة تستهدف أخونة المجتمع في تونس، خاصة أنها ترافقها عدة مظاهر أخرى على غرار المدارس القرآنية التي تم رصدها في السنوات الأخيرة التي شهدت استقطابا حادا بين الحاملين للواء الدفاع عن مدنية الدولة والإسلاميين.
وسارع المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة إلى الإعراب عن قلقه إزاء هذه الظاهرة قائلا في بيان له “يُتابع المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة بانشغال كبير ظاهرة ما يُسمّى بالسياحة الإسلامية أو السياحة الحلال المُتمثّلة في تنظيم دورات دعويّة داخل بعض النزل في جهات مختلفة من البلاد، يبثّ خلالها مُتشدّدون دينيّون خطاب العنف والتكفير وهو ما يبعث على القلق إزاء تزامن عودة الخطب الدعوية مع استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان ومحاولات إعادة الروح إلى الكيان الإخواني المتطرف في تونس”.
وأضاف المرصد أنه “يُجدّد نداءه بإيلاء الأهميّة القصوى للقضاء على كافة مظاهر المتاجرة بالدين واستعمال الإسلام والقرآن في غير محلّهما لأغراض سياسية تهدف، طبق أجندات خارجية معروفة، إلى تقويض أسس الدولة الحديثة، بواسطة الأجهزة الموازية السرّية، والتي تُشجّع على بثّ الفكر التكفيري العنيف المُعادي للسلم ووحدة الوطن والتقدّم”.
وشدد على “وجوب الإسراع بغلق كافة المواقع التي يجد فيها الإرهابيّون مرتعا لبثّ سمومهم بدءا بالنّزُل التي تُنظّم حلقات دعوية باسم ‘السياحة الإسلامية’، وبغلق المنابر العديدة الداعية لهذا التوجّه باسم الإسلام، على غرار الأحزاب التي لا تُؤمن بمبادئ الجمهورية وتستعمل الدستور والقانون لصالحها، وبغلق مقرّي ‘الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين’ الإرهابي في تونس وفي صفاقس، والمئات من المدارس ورياض الأطفال التي تحمل عبثًا اسم القرآن والتي تبثّ في الواقع الرهبة وروح العنف في نفوس الأطفال”.
ودعا المرصد إلى التصدّي لتدخّلات بعض الجهات الأجنبية الساعية لعودة الإسلام السياسي إلى السلطة في تونس، خدمة لمصالحها ولضمان مواصلة نفوذها في المنطقة.
ونجحت مثل هذه الظواهر، أي انتشار السياحة الإسلامية، في التسرب إلى تونس غداة الإطاحة بنظام الرئيس الراحل بن علي في 2011 حيث استغل الواقفون خلفها مناخ الحرية وعدم استقرار المؤسسات وكذلك سيطرة الإسلاميين عليها للقيام بأنشطتهم بكل حرية.
وتقول إيهاب الطرابلسي عضو المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة “منذ 2011 أصبحت الدولة المدنية في تونس في حالة خطر داهم فعليا بسبب مثل هذه الظواهر، أصبحنا نجد خطابات دينية متطرفة، شيوخ يكفرون هذا ويحلون دم الآخر، يتحدثون عن أمور يزعمون أنها فقهية ويخوضون مع الخائضين في مسائل معقدة تستوجب تريثا وعلما كبيرا قبل البت فيها بتّا يعتمد العقل والنقل معا، لا النقل فقط”.
أخونة المجتمع
بالرغم من أنها لم تعلق على الحادثة إلى حد الآن، إلا أنه بات جليا أن حركة النهضة الإسلامية التي تحتفل هذا العام بمرور 40 عاما على تأسيسها وسط غموض يكتنف مستقبلها، أبرز المراهنين على مثل هذه الممارسات للعديد من الاعتبارات.
تاريخيا، راهنت النهضة على الدعوة سواء في المساجد أو غيرها من أجل تعزيز شعبيتها رغم الملاحقات التي كانت تتم لقياداتها التي تسعى لتسريب أفكارها إلى المجتمع بما يخدم مشروعها السياسي الذي يقول منتقدوه إنه يستهدف في نهاية المطاف أخونة المجتمع.
واعتبرت الطرابلسي أن “السياحة الإسلامية تجسد محاولة من محاولات أخونة الدولة، لقد ازدهرت مثل هذه الظواهر منذ قدوم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية إلى تونس في 2011 في سياق ما سمي بالربيع العربي”.
وبالفعل كان الغنوشي الذي يرأس أيضا البرلمان المجمدة أعماله واختصاصاته بقرار من الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، قد دشن في يونيو 2018 “نزلا حلالا” في مدينة الحمامات في خطوة أثارت وقتها سجالات واسعة النطاق.
ويرى مراقبون أن السلطات التونسية كما الكيانات والأشخاص الذين يتبنون فكرا تقدميا سيكونون في مواجهة أفكار سامة نجح الإسلاميون في ترسيخها عبر سنوات من خلال استغلال المساجد والسياحة الإسلامية وغيرها.
وقالت الطرابلسي إن “الإسلاميين تركوا لنا تركة ثقيلة وحملا كبيرا تنوء به الجبال من جهل بالدين ومن تناقض في الخطاب ومن ازدواجية”، مضيفة أن “حادثة السياحة الإسلامية قد تشكل بداية عودة الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين في البلاد”.
مخاوف الإرهاب
تُحيي السياحة الإسلامية المخاوف من أن تُعيد الجماعات التي استقطبت الآلاف من الشباب في تونس بعد الثورة ودفعت بهم في إلى سوريا وغيرها من بؤر التوتر نفسها خاصة أن هذه الجماعات لم تتوان في الاعتماد على منابر المساجد وغيرها لتعبئة هؤلاء الشباب.
وبالرغم من أن النزعة الجهادية لدى قطاع من الشباب التونسي ليست وليدة اللحظة حيث شاركت أعداد منهم في الحرب الأفغانية إذ انتظم هؤلاء في صفوف أحزاب إسلامية للتصدي للغزو السوفييتي (1979 – 1989) أو غزو العراق من قبل القوات الأميركية، إلا أن الظاهرة انتعشت بشكل لافت وأرق التونسيين بعد 2011.
وفي 2015 أشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة إلى أن فريقا من خبراء المنظمة توصلوا إلى أن التونسيين هم الأكثر انضماما إلى التنظيمات الإرهابية في ليبيا وسوريا والعراق، فقد زاد عدد هؤلاء عن 5500 شاب.
ودعا المسؤولون بتونس إلى منع التحاق المزيد من مواطنيها بهذه التنظيمات. وأكد التقرير أنه وخلال هذه الزيارة تم إعلام فريق العمل بـ”وجود 4000 تونسي في سوريا، وما بين 1000 و1500 في ليبيا، و200 في العراق، و60 في مالي و50 في اليمن”.
كما أشار تقرير نشره معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في 2018 إلى أن المقاتلين التونسيين كانوا هم أكبر فئة للمقاتلين الأجانب المنخرطين في سوريا والعراق، وذكّر التقرير بمشكلة تواجد المقاتلين التونسيين في ليبيا واعتبرها مشكلة مقلقة.
واعتبر الأمين العام لحزب التيار الشعبي زهير حمدي أن “السياحة الحلال أو غيرها من الظواهر تمثل مفارخ حقيقية للتطرف والإرهاب، والهدف واضح من مثل هذه التحركات هو تقسيم التونسيين، ما معنى سياحة إسلامية وبقية الأنشطة غير إسلامية؟”.
وتابع حمدي “للأسف هذه الظواهر اعتقدنا أنها انتهت منذ سنوات لكن بدأت تُطل برأسها من جديد في تونس ما يعني أن الأزمة أعمق مما نتصور وأن مجتمعنا وحياتنا السياسية يتطلبان إصلاحات جذرية عميقة للقطع مع هذه الظواهر الغريبة على التونسيين”.
واستنتج أن “هذه الظاهرة تنال من مدنية الدولة في تونس، هي مظاهر يمنعها القانون، لا توجد فضاءات عمومية للكفار وأخرى للمسلمين، أو مدارس للمسلمين وأخرى للكفار، هذا فيه تمييز وتقسيم للمجتمع الذي نظمه الدستور”.
صغير الحيدري
صحافي تونسي