اختر لغتك

 
موسم هجرة "الثقافي" من العام إلى الخاص

موسم هجرة "الثقافي" من العام إلى الخاص - I- في تلمس اشكالات قطاعي التعليم والثقافة

I- في تلمس اشكالات قطاعي التعليم والثقافة
 
رجوعا إلى مبدئ تشعّب مسألة تخصيص القطاعات التعليمي والثقافي وحتى الاعلامي نسلّط الضوء على مسألة أساسية تجعل من هجرة الثقافي والتعليمي إلى الخاص مسألة مُربكَة ودقيقة إلى حد الخطورة. إذا ما تجاوزنا التعريفات الأولى لمفهومي العام والخاص وأنزلنا هذه المفاهيم على أرض الممارسة نقول أنّ العام والخاص محمولان على  أن لا يتركا فراغات للممارسات العشوائية، سواء كان ذلك في مجال التعليم أو الصحة أو الثقافة حتّى لا تتكوّن كيانات خارجة عن السيطرة قد تتفاقم كالأورام دون تأطير فتنتج تطرّفات وانحرافات، ولكن ذلك يجب أن يكون، في المقابل، دون أن يتغوّل مجال على حساب الآخر ودون أن يلتهم حيز حيزا آخر أو ينحسر قطاع تحت دكتاتورية قطاع آخر، ولن نبالغ إن قلنا أنّ واقع القطاع التعليمي والثقافي الابداعي في تونس يمرّ بهذا المنعرج الصعب الذي يتعاظم فيه مجال الثقافي والتعليمي الخاص أمام اندحار الحيّز العمومي في ذات القطاعات ولن نخفي، في هذا المبحث، تخوفنا أن يكون اندحار القطاع العام في هذه المجالات ممنهجا ومقنّنا ضمن استراتيجيا لا تجد لها مقاومة ذات فاعلية من المنتفعين المباشرين من القطاع الخاص ولا من العاملين به، ولا من الدولة باعتبارها سلطة الإشراف التي تضع الخطط  لحماية مرافقها العامة من الانهيار والارتداد إلى الخلف. 
 
يتوجّه القطاع الخاص عموما إلى الشريحة التي لا تتمكّن القطاعات العامة من مسحها أو تلبية طموحتها ففي التعليم الخاص مثلا كانت الفلسفة المعتمدة من قبل المعاهد أو الجامعات الخاصة هي تمكين المتعلمين غير القادرين على مواصلة تعليمهم في القطاع العام ويبحثون عن فرص أخرى للالتحاق ببقية زملائهم وتحصيل العلم. ويوفر القطاع الخاص في الصحة هامشا من الرفاهية والعناية التي تبحث عنها الشريحة الميسورة القادرة على دفع ثمن الرفاه وليس حق الصحة الذي يوفره القطاع العام بصفة مبدئية. من هنا يمكن أن نتحدّث عن تكامل، ولا نقصد بمبدئ التكامل من هذا المنظور المعنى السطحي والمبتذل للكلمة ولكن نركّز على المعني الواقعي والمادي الملموس والحسابي النسبي. ما يحدث منذ فترة في تونس هو زحف للقطاع الخاص في المجال التعليمي والثقافي الابداعي في مقابل تراجع للقطاع العام من حيث المساحة والنوع، ولئن تفيد الأرقام بأنّ هذا الواقع ما يزال ظاهرة ولم يمرّ بعد إلى التحّول الجذري العميق، إلا أن دراسة الأسباب والمعطيات يحيلنا إلى التفكير في ضرورة الوقوف عند العلل لتمثل الحلول المناسبة حتى لا يُغطي أحد المجالات حيزه وتجاوزه ويتطفّل على  الحيز الآخر ولا يهاجر الثقافي العام فيفقد حياده وموضوعيّته والمنطق التحليلي، كما لا يصبح التعلّم حكرا على الميسورين وأبناء الطبقة الغنية. أمّا أسباب تغوّل الخاص على العام في مجالات التعلّم والثقافة فهو راجع في اعتقادنا، إلى ظرفية علليّة متشعبة  يمكن أن نختزل تشعباتها في ثلاث حزم وهي: علل متعلقة باستفادة القطاع الخاص من خصال مبدئية يرتكز عليها القطاع العام، وعلل تتصل بعجز القطاع العام على التمسك بمكتسباته البديهية والجوهرية والعجز عن الانفتاح على المحيط وعلى الآخر وعلى العصر، أما النوع الثالث من العلل فيرتبط بغياب الإرادة السياسية في تقليص هيمنة لوبيات ثقافية تجد  تفرعات لها في مجال الإعلام والسياسة والاقتصاد، ومن خلال هذه الدراسة نودّ الوقوف عند هذه الحزم العللية ليس من باب التذمر أو التنديد ولكن من باب التحليل والتنبيه الى الانحرافات التي قد تبدو بسيطة ولكنّها تأخذ أبعاد هامة ذات وقع عميق مع مرور الزمن.
أ‌- عجز القطاع العام في تونس على الالتزام بوظائفه الجوهرية والانفتاح على وظائف تكميلية: يبقى القطاع العام في تونس على الرغم من تماسك هياكله مؤسساته في تراجع تترجمه نزيفات من حيث مرتاديه والمعتمدين عليه وتقلص هامش الثقة التي تعوّدَت على منحها له الذواتُ المتعاملة مع هذا القطاع، فنحن نشهد في كل سنة هجرة التلاميذ والطلبة وحتى المدرسين إلى القطاع الخاص، وليست الهجرة التي نتحدث عنها تلك الطبيعية التي يضطر إليها المتعلمون المحرومون من فرصة المواصلة في التعليم العام ولكنّنا نخص بالذكر المتعلمين الباحثين عن ظروف تعلمية أفضل من المتوفرة في القطاع العام من حيث جودة التعليم، نجاعته، قدرته على منافسة التجارب في العوالم المتقدمة، الموفرة لإمكانات عديدة منها اللغوي ومنها التكنولوجي ومنها البيداغوجي لإذكاء قدرة المتعلم على الاستيعاب والانتاج. ولعل ما يزيد الذاوات المتعلمة نفورا من القطاع العام هو أولا نسب البطالة لحاملي الشهادات وتزايد هذه النسب من سنة الى أخرى، وثانيا التقهقر المتواصل لمراتب الجامعات التونسية بين بقية الجامعات حتى مقارنة بالجامعات التي كانت تأتي في مراتب متأخرة بالنسبة إلى الجامعات التونسية في سنوات ماضية... 
 
وعلاوة عن تدهر مستوى خرجي الجامعات التونسية مقارنة بمستويات زملائهم المتخرجين قبل عقود قليلة ماضية،  فإنّ المادة المدرسة لا تتوافق أحينا كثيرة مع الكفاءات والكفايات المطلوبة في سوق الشغل وهنا يتناقض العرض مع الطلب المتضائل بطبيعته لأسباب اقتصادية في علاقة بالإنتاج والانتاجية وبالتطور المتواتر للتكنولوجيا والمعلومات والتقنيات والافكار...
 
لم يعد القطاع الخاص في مجال التعليم قادرا على تلبية طموح المتعلمين فخُلق العزوفُ لديهم ليس من أجل المكمّلات (كحال القطاع الخاص في مجال الصحة مثلا) ولكن من أجل تحصيل الوظيفة الأساسية والجوهرية المنوطة بقطاع التعليم.
 
أما بالنسبة لمجال الثقافة والابداع فإن القطاع الخاص مازال يسبح في آفاق لا تتداخل بالضرورة مع آفاق القطاع العام وهو ما لا ينفي انبثاق أحيزة لولادة مشاريع ثقافية تبشر بانفتاح مجالات جديدة للإبداع والفكر ولكنها تدعو رغم ذلك إلى الحذر من هيمنة القطاع الخاص على  المشهد الثقافي واحتكار المبدعين وتوظيفهم لأغراض أخرى غير البحث والمعرفة والابداع والخلق وخدمة الفكر.
 
ولا تعود محدودية فاعلية القطاع الخاص في المجال الثقافي لتماسك القطاع العام في ذات المجال أو لتشجيع الدولة للثقافة ودعمها مما لا يترك فرصا للمنافسة، بل على العكس تماما إذ أن الميزانية المرصودة من قبل الدولة في المجال الثقافي لا تتجاوز %1 من قيمة الميزانية العامة للدولة...وإنما تعود بالأساس إلى تهميش دور المثقف في تونس ومصادرة آرائه لسنوات عديدة وتوظيف ابداعه في خدمة السلطة او المعارضة وعدم سنّ قوانين تحميه وتحمي حقوقه الفنية بالدرجة الكافية هذا بالإضافة إلى العراقيل الماديّة التي يواجهها والمثقف من أزمات الهوية وتهم التبعية والتقليد وما الى ذلك من المشاغل الأخرى والتي تعيق مسيرته.
 
ب‌- استفادة القطاع الخاص من مزايا القطاع العام: ركّز قطاع التعليم الخاص في السنوات الأخيرة على مبادئ ثلاثة هي: تطوير الجانب التكويني والمعرفي من حيث الجودة، تحسين ظروف التكوين وتوفير الطرق المناسبة لتمرير المعرفة وتلقيها، الاعتراف الرسمي وأحيانا الدولي بالديبلومات المسلّمة من طرف المؤسسات الخاصة.
 
ت‌- غياب الارادة السياسية لتقليص هيمنة لوبيات ثقافية تجد لها تفرعات في مجال الاعلام والسياسة والاقتصاد: ما يثير الاستغراب في مجالات الفكر والثقافة والفنون أن معايير الكفاءة لا تتوافق دائما مع الاشعاع والمكانة المسندة للمثقف، فقليلا ما نرى الباحثين والمختصين في الثقافة على رأس المؤسسات الثقافية أو كمراجع تُقدّم عبر وسائل الاعلام لتحقق الاستفادة، حتى صار المخيال الجمعي التونسي  للثقافة والفنون يأخذ شكل أشباه المثقفين وهم ليسوا أكفاء بالقدر الكافي للتنظير أو لقيادة المجتمع إذا ما آمنا بأن المثقفين هم القاطرة التي تجر خلفها المجتمعات نحو الرقي والتطور.  
 
 

آخر الأخبار

يوسف سنانة يثير الجدل: إعارة إلى ترجي جرجيس وسط غياب ومطالب بفسخ العقد!

يوسف سنانة يثير الجدل: إعارة إلى ترجي جرجيس وسط غياب ومطالب بفسخ العقد!

مهرجان أوذنة الدولي: ثاني سهرات الدورة الرابعة تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية

مهرجان أوذنة الدولي: ثاني سهرات الدورة الرابعة تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية

إصابة محمد أمين الحمروني تتطلب راحة طويلة وتدخلًا جراحيًا

إصابة محمد أمين الحمروني تتطلب راحة طويلة وتدخلًا جراحيًا

مهرجان أريانة: سوء تنظيم وترحيب  "بالمعارف" بدل الصحفيين

مهرجان أريانة: سوء تنظيم وترحيب "بالمعارف" بدل الصحفيين

نائب في البرلمان التونسي يكشف عن حكم بالسجن لأهالي صفاقس بتهمة استغلال حوّالات بريدية للمهاجرين الأفارقة

نائب في البرلمان التونسي يكشف عن حكم بالسجن لأهالي صفاقس بتهمة استغلال حوالات بريدية للمهاجرين الأفارقة

Please publish modules in offcanvas position.