وكأنما نظر المتنبي بعين الغيب إلى لطفي الڤلمامي حين قال : وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ ** إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ
قُتل المتنبي و لن يستطيع الدفاع عن الڤلمامي. لكن ألا يوجد في هذا البلد “زولا” ذلك الرجل الذي أنقذ “دريفوس” العسكري الفرنسي الذي اتِّهم باطلا بالتخابر مع ألمانيا و حُكم عليه بالسجن المؤبد؟
ما أشبه ظلم الحاكم في فرنسا، في نهاية القرن التاسع عشر، بظلم الحاكم في تونس اليوم!
أثبت رئيس المخابرات العسكرية الفرنسية وقتئذ أن الفاعل هو قائد الجيش الفرنسي، و ليس دريفوس. و أقرت المحاكم ذلك. غير أن الدولة عصبت العينين و صمّت الأذنين حفاظا على “هيبة الدولة”…وجه الشبه يقف عند ذلك الحد. أتعلمون السبب؟
بسيط جدا.
في فرنسا الظالمة كان هناك” إيميل زولا” و آخرون مثله. رأوا الظلم و لم يصمتوا. و تحرك الإعلام حتى كتب زولا مقاله الشهير “إني أتهم” “J’accuse” . و نال دريفوس حقه و رُدّ له اعتباره.
في تونس اليوم الاعلاميون كلهم يعلمون أن لطفي القلمامي هو دريفوس تونس. لكن لا أحد منهم يملك شجاعة زولا و لا قدرته الإعلامية. “زولا” فضل الحرمان من الدخول إلى الأكاديمية الفرنسية بجرأته، و واجه القضاء و المنفى. و لذلك يذكر الناس اسمه و ينسون من نعموا ببهرج الأكاديمية.
صحيح أن البعض في تونس حاول الدفع نحو إنصاف الڤلمامي. غير أنها بقيت محاولات محتشمة. قضية دريفوس كانت بداية سقوط الحمهورية الثالثة. و أصبحت القضية تيارا فكريا عميقا يبحث في علاقة السلطة بالقضاء و “بالمصلحة الوطنية”: Dreyfusisme
و لأنهم غلّبوا في فرنسا حق الفرد على “منطق الدولة” حققوا الديمقراطية و ضمنوا للدولة منطقها و هيبتها. إذا كان الإعلاميون يعلمون كلهم أن الرجل مظلوم و هم صامتون، فعمّ سيدافعون؟ القضية تخص شخصا في وقائعها، غير أنها تمس حياة دولة في رمزيتها…
ما يثلج الصدر في هذا، قبل أن يشُلَّه، هو أن بيننا و فرنسا 120 عاما. بين دريفوس و الڤلمامي 120 عاما… 120 عاما بما تَعدُّون في دهاليزكم . أما في سلّم قيس الزمن بالحق و العدل و المسؤولية فهي سنوات ضوئية أو ربما ظلامية…لم أعد أفقه ما أقول.