اختر لغتك

 
العمل عبادة

العمل عبادة

ان النشاط الدؤوب الذي لا ينقطع من العالم كله و السعي المستمر للعامل و الفلاّح، للمدير و الأجير، للطالب و المهندس، للصحفي و الأديب، للعالم و الطبيب... كل حركته لا تنقطع لتنتج و تنفع و يتجسد إستحقاق استخلاف الانسان في الارض و تزدهر الانسانية و تتطور عصر بعصر بفضل العمل. و قد شبّه محمود تيمور العمل بالصلاة، فكلاهما إستغراق في عمق التكليف الإلهي و ترفّع عن توافه الامور.و يغدو العمل كالعبادة لا مفرّ من الإقبال عليه و أدائه على أكمل وجه.

يعرّف العمل على أنه ذاك الجهد الحركي و الطاقة التى يبذلها الانسان من اجل تحصيل  و إنتاج ما يؤدي الى اشباع حاجة معينة ، و هو مجهود إرادي واعي مكلل بآيات الابداع و حاجة الاشباع.و هو ايضا تشكيل للمادة و تحويلها، بمعنى إعتماد مادة أولية لإنتاج شئ ما فيه نفع للانسان، و يشترط أن يكون في هذا العمل  لمسة خاصة فيها من الخلق و التجديد ما يعطيه قيمة كبرى و  بغياب هذا الجانب فسيكون لا روح فيه بل مجرّد ممارسة روتينية و إنتاج لإشباع حاجة عرضية و لا أثر لها، بل تختفي  بمجرد حصول فعل الإشباع الذي يليه إهمال و تجاهل إلى حين تجدد الحاجة إلى الإشباع في مرة مقبلة.

و لحسن إنجاز العمل لابدّا من المرور بمرحلتي التخطيط و التنفيذ حتى  يضمن شروط الإتقان و تباعا النجاح. لأنه يؤثر على الإنسان و يعطيه قيمة لذاته و يبرر وجوده في هذا الكون كمخلوق جوهري.حيث "إنّ العمل ممارسة لوجود الإنسان و تحقيق له" (رجب بودبوس) و  "إن العمل يخلّد الفاني"(رجب بودبوس).و يحفظ مآثر الشخص المبدع و عمله كنتاج إبداعي و يشارك بذلك في تكوين التاريخ الإنساني، ما يرفع مقام صاحبه الى ما يتجاوز مجرد الإنسانية و يتحرر من سيطرة الطبيعة المادية عليه. فيرتقي بالروح و الفكر، و يصبح العمل موجة إرادة و عزم لمزيد التقدم ثمرته النجاح و الوصول لأكبر قدر من العلوم و الإكتشافات. إنه سرّ الرّقي الحضاري بإعتباره قيمة جوهرية من خلاله تتحقق ذاتية الإنسان و يكسب تقديره لنفسه و إحترامه لما يصنعو تفنن فيه.

علاوة على كون العمل هو خلق و إبداع فهو أيضا أخلاق و حسن معاملة، فسلطان الوظيفة أحيانا يجعل المرء يسئ معاملة الناس و يتفنن في تعطيل مصالحهم فقط لانه عامل خامل كسول رغم أنه "لا راحة بغير عمل" (توفيق الحكيم)، إتخذ منصبه ليغطي على عجزه عن الإبداع و تقديم أية إضافة. في حين نجد من هو أقل منه مقاما مبدع و فنّان " ينحني ظهره لتستقيم ظهورنا و يلوي عنقه لترتفع وجوهنا نحو الأعالي" (جبران خليل جبران).

إن العمل الابداعي هو جدار وقاية يحمي الانسان من الإستسلام و الخنوع و الضعف أمام الصعوبات و الإحباطات و الأمراض، و في صورة غيابه فإنه يعرّض المجتمعات إلى صعوبات و إشكالات جمة كعدم حصول الإكتفاء الذاتي و الغرق في الجهل و التخلف و تردي مستوى المعيشة و الإنحراف الأخلاقي. لهذا نجد أكثر المجتمعات المتقدمة اليوم هي أكثرها إخلاصا و تفان في العمل و حرصهم على الإبداع و الإختراع و الإكتشاف أكثر. مما يضمن تطور و رفاهية أكبر لأفرادها.

إن إعطاء العمل حيزا كبيرا في حياة الإنسان كشرط لتقدمه يجعل هذا الاخير منكب عليه لا يطلب سواه في كل المجالات، فينتج عنه إكتشافات طرق عمل و إنتاج جديدة لعل أهمها الأسلوب التيلوري أي نظام تقسيم العمل ما يضمن زيادة في الإنتاج و تقليل التكاليف. هذا التطور و إن كانت فوائده كثيرة من ما  يقدمه من نهضة و تسهيل على الإنتاج و إنقاص المجهود المبذول، و أمام زحف قطاعات الإنتاج الإستهلاكية، إلا أن العامل سقط في كونه أصبح مجرد آلة تخلو من الإنسانية. مما قلّص حريته و ضيّق مجال فكره ليحدّ بالتالي من إمكانيات إبداعه و تجديده في العمل و أصبح يعيش حالة إغتراب إذ أن "العمل الذي لا يحقق الوجود يؤدي إلى الإغتراب و نعني به فقدانالإنسان حريته و إستقلاله الذاتي بتأثير الأسباب الإقتصادية أو الإجتماعية أو الدينية و يصبح ملكا لغيره أو عبدا للأشياء المادية" (جميل صليبا).و تباعا تضيع قدراته الفكرية و العقلية إن إعتمد على ساعده و العكس حاصل. فتهدر ملكات كثيرة كان بالإمكان تقديمها الإضافة بإبداعها و إستغلالها في التنمية و التطوير. لأن"تدجين الإنسان في مجرد وظيفةإنتاجية و إستهلاكية هو سلب للانسانية" (علي عزت بيغوفتش). اليوم نرى الطبقة العمالية في معزل عن العمل الإبداعي الذي إستأثرت به تلك الطبقة المتسلطة التى تسمى النخب و ما يزيد في غربتها في هول نسق التقدم الحضاري مما يسهل قيادتها و التأثير عليها كيفما كان.

يبقى العمل تلك القيمة الجوهرية التى تحقق وجود الانسان من خلالها. و قد حث الاسلام على العمل و الاجتهاد فيه، قال الرسول الاكرم "ان قامت الساعة و في يد احدكم فسيلة، فان استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها".و رغم تغيّر المفاهيم و أنساق العمل في العالم في عصرنا الحالي الذي بات تحكمه الرأسمالية و التي تكرس كل ماهو كوني و تلغي اي خصوصية يبقى رهان العاملين في كيفية الابداع و التجديد في كل ماهو خصوصي و الوصول به إلى العالمية فهل تصمد هويتنا من خلال العمل المبدع اليوم أمام كم الإنفتاح الكوني الذي حدث في عصر التكنولوجيا و الآلية المتقدمة؟

 

Tags:

آخر الأخبار

خطأ طبي كارثي في قليبية: طبيب يقطع العضو الذكري لطفل أثناء عملية طهارة

خطأ طبي كارثي في قليبية: طبيب يقطع العضو الذكري لطفل أثناء عملية طهارة

عرض صوفي خيري في قصيبة المديوني لدعم العائلات المعوزة: "الڨلة" ينير المسرح البلدي

عرض صوفي خيري في قصيبة المديوني لدعم العائلات المعوزة: "الڨلة" ينير المسرح البلدي

الملعب التونسي يحقق لقب كأس تونس للمرة السابعة في تاريخه

الملعب التونسي يحقق لقب كأس تونس للمرة السابعة في تاريخه

عين دراهم: ورشة تشاركية للنساء العاملات والمشغلين في القطاع الفلاحي حول العمل اللائق

عين دراهم: ورشة تشاركية للنساء العاملات والمشغلين في القطاع الفلاحي حول العمل اللائق

كاظم الساهر يجمع شعراء العالم العربي في ليلة ساحرة بالقاهرة

كاظم الساهر يجمع شعراء العالم العربي في ليلة ساحرة بالقاهرة

Please publish modules in offcanvas position.