في مثل هذا اليوم، 25 سبتمبر 1994، رحل عن عالمنا إسماعيل الحطاب، رائد الغناء الشعبي التونسي، عن عمر يناهز 69 عامًا. كان الحطاب صوتًا لا يُنسى وأيقونة حية في ميدان الغناء الشعبي البدوي الذي نقل فيه تراث البادية إلى قلوب الناس بفضل موهبته الفريدة.
مقالات ذات صلة:
سميرة سعيد تتحدى الزمن: إطلالة شبابية تخطف الأنظار!
رحيل الشاعر والروائي عبد الجبار العش.. قلم تونس الذي لن يُنسى
رحيل عبد الحق خمير: رائد مسرح العرائس في تونس وأب الرواد
البدايات: من مدّاح إلى نجم شعبي
وُلد إسماعيل الحطاب عام 1925، وبدأ مسيرته في ساحة الحلفاوين بالعاصمة تونس، حيث كان يعمل مع والده مدّاحًا في الحفلات الشعبية. هذه البداية المتواضعة كانت الشرارة التي جعلت منه أيقونة في مجال الغناء البدوي، الذي كان حينها محصورًا في المقاهي الشعبية مثل "قهوة المحبس" بباب الجزيرة، حيث كانت تجمع البدويين والنازحين.
غناء الموقف وتراث المثاليث
كان إسماعيل الحطاب فنانًا يجمع بين قوة الصوت وسحر الكلمات، متأثرًا بالشعراء الشعبيين الكبار مثل محمد الصغير ساسي وخاله شبيل الجبراني. وبفضل تعاونه مع هؤلاء الشعراء، أدخل غناء الموقف إلى الغناء الشعبي، مُوظفًا الزكرة والطبلة كآلات موسيقية رئيسية. هذا الجمع بين الشعر البدوي والألحان العصرية جعله يُرسخ نفسه كملك غير متوج للغناء الشعبي.
قال في إحدى أغانيه الشهيرة: "اسمع ياللي تحب تغني / دير ثنية خصوصي ليك / ما اتبعش لحني وفني / راهي ثنيتي بعيدة عليك"، ليؤكد أنه ليس مجرد مغنٍ شعبي، بل صانع نهج خاص ومتفرد.
التعاون مع الإذاعة ونشر التراث
أسهم إسماعيل الحطاب في إدخال "الزكرة" إلى الإذاعة التونسية، ليصبح واحدًا من الأصوات التي لا تُنسى في الإذاعة الوطنية. كما كان له دور كبير في تكوين الفرقة القومية للفنون الشعبية، حيث أشرف على تعليم الرقص الشعبي والعزف على الزكرة والدربوكة، وكان له الفضل في تقديم الثنائي الشهير "زينة وعزيزة" اللتين أصبحتا رمزين للرقص الشعبي في الحفلات الشعبية والكافيشانطات.
التفرد الفني والإبداع
ما يميز إسماعيل الحطاب عن غيره من الفنانين هو قدرته على المزج بين الطابع البدوي والنغمات الشرقية. غنّى الطبوع التونسية مثل "الصالح المثلوثي"، ووسّع دائرة مستمعيه من خلال تقدي
م أغاني تتناول الحب والحرب والتراث، واستلهم من ملحمة محمد الدغباجي ليقدم أغنية "الخمسة اللي لحقوا بالجرة"، التي حكت تفاصيل الصراع ضد الاستعمار الفرنسي.
اقرأ أيضا:
الحبيب هميمة: صانع ذاكرة الصورة التونسية
وفاة نجم الكرة الإيطالية توتو سكيلاتشي عن عمر يناهز 59 عامًا
ذكرى: نجمة العرب المفقودة وصوت يتردد في الأفق
دوره في حفظ التراث الشعبي
إلى جانب دوره في الإذاعة والحفلات، كان لإسماعيل الحطاب تأثير كبير في تحويل الشعر الشعبي إلى غناء. لحّن بنفسه جميع أغانيه، ولم يقتصر على غناء التراث القبلي لمنطقته فقط، بل قدّم تنوعًا واسعًا من القصائد الشعرية من مختلف جهات تونس.
أيقونة السهرات الشعبية
كان الحطاب نجمًا في الكافيشانطات التي أُقيمت في تونس العاصمة، حيث شهدت حفلاته رواجًا واسعًا بفضل أدائه المميز. وقد اشتهر بأدائه القوي في عرض "النوبة" الذي أخرجه الفاضل الجزيري عام 1991 على مسرح قرطاج، حيث قدّم أغانيه التي لا تزال خالدة في ذاكرة الجماهير.
التأثير والإرث
استمر تأثير إسماعيل الحطاب قويًا حتى بعد وفاته، حيث ترك بصمة عميقة في جيل كامل من المغنين الشعبيين مثل عبد اللطيف الغزي ومصطفى السعيدي والشاب سليم. لم يقتصر حضوره على الأغاني الشعبية فقط، بل كان له دور مهم في ترسيخ الهوية الثقافية التونسية بعد الاستقلال.
أسطورة لا تموت
لم يكن إسماعيل الحطاب مجرد فنان شعبي عابر، بل كان رمزًا وطنيًا وثوريًا في مجال الغناء الشعبي، ونجح في تقديم التراث البدوي بأسلوب عصري جعل منه ملك الغناء الشعبي في تونس بلا منازع. اليوم، يُعدّ إرث إسماعيل الحطاب جزءًا لا يتجزأ من الثقافة التونسية، وما زالت أغانيه تُردد في الأعراس والحفلات، ليبقى في ذاكرة الأجيال كمثال للفنان الذي لا يُنسى.