في قلب المدينة العتيقة، حيث تختلط الأزقة الضيقة التي تنبض بالحياة مع عبق التاريخ ينبثق معرض "حراك إبداعي" كنافذة غير محدودة نحو عالم من الإبداع التشكيلي العصامي، هذا المعرض الذي ينظم في فضاء "سات كروا" لا يعد مجرد تجميع للأعمال الفنية إنما هو فضاء حي تتلاقى فيه الرؤى والتجارب الإنسانية عبر أكثر من 160 قطعة فنية بمشاركة 88 فنانا عصاميا من مختلف جهات تونس، من هنا يتضح أن المعرض ينسج خيوطا رفيعة بين جمالية الفن وحرية التعبير حيث يجسد لحظة من الزمن في رحلة لا نهاية لها نحو الذات.
مقالات ذات صلة:
علياء بالعيد: أيقونة التألق والإشعاع في عالم الفن والمجتمع! ✨🎤
🎤 شكري عمر الحناشي.. صوت من زمن الفن الأصيل، وإبداع لا يهادن! 🔥
"الفتنة"... جدل قانوني يشعل الساحة الفنية في رمضان 2025!
في "حراك إبداعي"، تتعدد الأساليب وتتلاقى المواد لتقديم تجربة بصرية تستشعرها الأرواح قبل العيون، من النحت والزخرفة إلى الكي على الخشب والفسيفساء واللوحات التشكيلية والخط العربي، تلتقي كل هذه الفنون لتكون معا صورة عميقة عن المجتمع التونسي وتطلعاته، ومن خلال هذا التنوع يظهر المعرض كأنه جسد حي يعبر عن الاختلافات التي تكون الكيان التونسي، فكل قطعة فنية هي حالة فريدة تترجم أوجاع الفنان، آماله، وأحلامه بلغة غير تقليدية، تتجاوز الحدود الأكاديمية المألوفة مما يتيح لنا اكتشاف أفق جديد للتفكير في الفن بوصفه وسيلة للتعبير عن الواقع لا لتجميله.
ومع كل لوحة أو منحوتة يتجلى جوهر الرسالة التي يحملها المعرض الحرية، فكما توضح رئيسة الجمعية التونسية لعصاميي الفن التشكيلي لطيفة محمد فإن "هذا المعرض دعوة لكل زائر ليعثر في الفن على شيء من ذاته"، لكن السؤال هنا يبقى ماذا يعني أن يعثر الفرد على ذاته في الفن؟ أليس الفن بما هو حرية لا حدود لها هو الوسيلة الأنسب للكشف عن صراعنا الداخلي؟ إن هذه الأعمال الفنية هي أكثر من مجرد تجميل بصري لكنها انعكاسات للروح التونسية التي تبحث عن مكانها في عالم مليء بالتحديات.
إذا نظرنا إلى الفن التشكيلي العصامي في هذا المعرض نجد أنه ليس مجرد وسيلة تعبير فردية إنما هو في جوهره مقاومة حية للقيود الاجتماعية والسياسية، فالفنان العصامي الذي يسير في طريق بعيد عن الأطر التقليدية يختار أن يكون صوته غير محدود، يرفض أن يقيد أو يصنف، لذا نجد أن كل عمل فني في المعرض يبرز من خلاله تمردا على القوالب المألوفة في محاولة لتجاوز كل ما يعوق الحرية الإبداعية، وهنا يمكننا أن نرى كيف تتجسد فكرة الحرية في كل تفصيل من تفاصيل الأعمال الفنية وكأن كل قطعة هي ردة فعل على واقع معقد يرفض الفنانون الخضوع له.
ومن هذا المنطلق، يبرز المعرض ليس فقط كحدث فني لكن كحوار مستمر بين الماضي والحاضر، بين الأجيال المختلفة التي شاركت فيه، فتلك الأجيال التي جاءت من مختلف أرجاء تونس تحمل في أعمالها شهادات متباينة عن الواقع التونسي ليكتمل التفاعل بين الفن والمجتمع، لكن السؤال يظل قائما كيف نقرأ هذه الأعمال التي تتناثر بين أيدينا؟ هل هي محاولة لتوثيق التاريخ أم هي استجابة مباشرة لآلام الحاضر؟ ربما يكون الجواب في البعد الزمني الذي يعيشه الفنان في لحظة يخوض فيها صراعا بين ما كان، وما هو كائن، وما يمكن أن يكون.
إن ما يميز "حراك إبداعي" هو قدرته على فتح آفاق جديدة لفهم الفن التشكيلي العصامي باعتباره ردا على الجدل الدائم حول الأشكال التقليدية للعرض والإبداع، وعلى الرغم من أن الفنانين العصاميين لا يتبعون المعايير الأكاديمية المعتادة إلا أن أعمالهم تتمتع بحساسية عالية تجاه ملامح الواقع، هنا يظهر الفن ليس فقط كوسيلة للتعبير الفردي بل كأداة فعالة لمحاكاة الواقع، فكل قطعة فنية تحمل في طياتها رسالة غير مرئية تكشف عن أحوال الفنان وتجاربه الخاصة مع العالم من حوله.
وعليه، فإن هذا المعرض لا يعد مجرد عرض جماليات مرئية لكنه منصة مفتوحة للتساؤلات الكبرى التي تتعلق بالفن والمجتمع، كيف يتشكل الفن في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية؟ هل يبقى الفن أداة للزخرفة أم يصبح وسيلة للتغيير؟ هذه الأسئلة التي تظل ترافق كل زائر، وكل فنان، وكل لوحة في المعرض، تمثل حالة من الوعي الجمعي المستمر في محاولته لفهم تأثير الفن في سياقات مختلفة، وبينما تنبض الأعمال بتجارب فنية فردية تنبثق معها أيضا أسئلة مفتوحة تعكس تطلعات الإنسان في بحثه عن الحرية.
وإذا كان هذا المعرض يحمل بين طياته كل هذا الإبداع والإصرار على الحرية، فإن الأدوات المستخدمة فيه ليست مجرد مواد جامدة إنما هي رسائل بصرية تؤكد أن الفن ليس وسيلة لتمثيل العالم فحسب بل هو صيغة جديدة للتفاعل معه، اذ إن معرض "حراك إبداعي" هو شهادة حية على أن الفن بكل تعبيراته وألوانه يبقى في صميمه حراك مستمرا نحو الذات وحوارا دائما مع الواقع، مع الحرية، ومع المستقبل.