تعيش تونس اليوم في قلب عملية تحول عميقة تهدف إلى بناء نظام اقتصادي واجتماعي يعتمد على المشاركة المجتمعية ويسعى لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، زفي هذا السياق تبرز الشركات الأهلية كأداة محورية في بناء هذا المستقبل المنشود، إذ تهدف إلى الجمع بين القوى المحلية والمجتمع المدني لتنفيذ مشاريع تعكس احتياجات المواطنين في مختلف المناطق، ومع ذلك ورغم آمال البعض في أن هذه الشركات يمكن أن تكون نقطة تحول في مسار التنمية، فإن الطريق نحو تحقيق هذا الطموح محفوف بالعديد من التحديات التي قد تجعل من هذا النظام أكثر تعقيدًا مما يظهر.
مقالات ذات صلة:
ملتقى جندوبة حول الشركات الأهلية: رهان اقتصادي لتحقيق العدالة الاجتماعية وخلق الثروة
الشركات الأهلية في تونس بين الطموح التنموي والتحديات التطبيقية
جندوبة تحتضن الملتقى الجهوي حول الشركات الأهلية: نحو ديناميكية تنموية جديدة
اذ ان غياب القدرة على تحديد نوعية الشركات الأهلية التي تتناسب مع خصوصية كل منطقة يعد أحد الأزمات العميقة التي تواجه هذا النموذج، فكل جهة في تونس تمتلك سمات ثقافية، اقتصادية، وجغرافية تميزها عن غيرها، فإذا كانت بعض المناطق تتمتع بموارد طبيعية وفلاحية يمكن استثمارها بشكل فعال، فإن مناطق أخرى قد تحتاج إلى شركات صناعية أو تجارية تواكب تطور السوق، ولكن في غياب تصور استراتيجي قادر على فهم هذه الفروقات واختيار الأنشطة الأنسب لكل منطقة تصبح الشركات الأهلية مجرد كيان شكلي لا يؤدي الغرض الأساسي منها وهو تحقيق التنمية المستدامة.
أكثر من ذلك، تكمن المشكلة الأعمق في أن هذه الشركات لا تزال عاجزة عن إيجاد مكانها في السوق الاقتصادي المحلى وذلك لعدة أسباب متشابكة تبدأ من الانغلاق الإداري إلى ضعف التنسيق بين القطاعين العام والخاص،حيث ينظر إلى الشركات الأهلية ذات الصبغة التجارية والصناعية بعين الريبة من قبل قوى اقتصادية معينة قد تخشى من منافستها على مستوى السوق أو حتى من فقدان مصالحها، فتلك القوى التي قد تجد في الشركات الأهلية تهديدا لمواقعها الاقتصادية تظل حجر عثرة أمام نمو هذه الشركات ما يعكس صراعا بين القوى المحافظة التي لا ترغب في التغيير وبين رغبة الدولة في تحقيق نمو متوازن وأكثر عدالة.
في هذا السياق، تتضاءل الإرادة السياسية لدفع نسق تأسيس الشركات الأهلية خاصة تلك ذات الطابع الصناعي أو التجاري التي قد تهدد مصالح بعض الأطراف الكبرى، كما أن المعضلة الكبرى تكمن في هيمنة الأساليب التقليدية في الاقتصاد مثل الاستغلال المالي واليد العاملة في ظل ظروف غير قانونية، مما يعكس تجذر ثقافة اقتصادية غير رسمية في المجتمع، هذه الثقافة التي تساهم في إعاقة التقدم تضع الشركات الأهلية أمام عقبة فكرية عميقة حيث تبقى محاطة بنظرة تشكك في قدرتها على تقديم حلول حقيقية للمشاكل التنموية.
ومع ذلك، ورغم هذه التحديات الهيكلية، يمكن أن تبقى الشركات الأهلية الأمل في تحويل المجتمعات المحلية، ولكن ذلك يستدعي إعادة النظر في مفهوم هذه الشركات وفي كيفية تنظيمها من خلال قوانين وآليات تضمن نجاحها، ما هو ضروري هنا هو الاعتراف بأن التنمية لا يمكن أن تتحقق بالفرض وإنما عبر فهم عميق لاحتياجات المناطق وتخصيص الحلول المناسبة لها، ومن هذا المنطلق لابد من تبني توازن بين مختلف القوى سواء كانت اقتصادية، اجتماعية أو حتى سياسية بحيث يتم خلق بيئة مؤسساتية تدعم التنسيق بين الهيئات الحكومية والشركات الأهلية.
في النهاية، يبقى السؤال الجوهرى: هل نحن قادرون على إزالة الحواجز النفسية والاجتماعية التي تمنع تحول الشركات الأهلية إلى رافعة حقيقية للتنمية؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تكمن فقط في التشريعات أو الآليات القانونية، إنما في تحول فكري يشمل جميع الفاعلين الاجتماعيين ويستند إلى إيمان حقيقي بقدرة المجتمع على إحداث التغيير.