منظومة الحكم العميق تتجاوز الشاهد، فالفعل الاقتصادي مرهون بإملاءات وشروط صناديق الاقتراض والفعل السياسي مرسوم من قبل حركة النهضة والفعل الاجتماعي يمر قسرا من خلال التفاوض مع اتحاد الشغل.
لا جديد في خطاب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي ألقاه الليلة قبل الماضية في شكل استجواب صحافي على قناة تلفزيونية خاصّة، لا جديد لا من حيث المضمون ولا من حيث الرسائل المضمنّة، إلا إذا استثنينا قضية العدالة الانتقالية التي لا بد من التوقف عندها مليا.
لا جديد يُذكر، لأنّ كينونة الفاعلين السياسيين الجدد كامنة في حقن المسكنات المجتمعية والتقاطع مع الذاكرة القصيرة للمواطن وإلقاء ركام من المؤشرات الإيجابية والأرقام المضخمة على أسماع المواطن الذي لا يجد في النسب ما يسد رمق جوع أبنائه وما يملأ قفته الفارغة منذ سنوات الثورة.
لا جديد يُذكر أيضا، لأنّ منظومة الحكم العميق والحقيقي تتجاوز الشاهد، فالفعل الاقتصادي مرهون بإملاءات وشروط صناديق الاقتراض والفعل السياسي مرسوم من قبل حركة النهضة. والفعل الاجتماعي يمرّ قسرا وحصرا من خلال التفاوض مع اتحاد الشغل، أمّا الفعل الدبلوماسي فلا يكون إلا من بوابة الرئيس الفعلي للدبلوماسية التونسية الباجي قائد السبسي.
يقف الشاهد على أرض رخوة وفوق حقل ألغام شديدة الانفجار، فهو الحاكم دون مقوّم ومستند الحكم، وهو رئيس الحكومة الذي جاءت به “إكراهات الواقع السياسي”، و“تحالف الضرورة”، مثله مثل باقي رؤساء الحكومات السابقين منذ أن اختارت النهضة أن تسيطر على الحكم من خلال القبض على مقاليد الدولة وترك الكراسي لحلفائها.
صحيح أنّ يوسف الشاهد مختلف عن الحبيب الصيد والمهدي جمعة، من خلال عدّة اعتبارات ومستويات لعل أهمها أنّه صنع وزنا سياسيا أهله للخروج نسبيا من الارتهان للأحزاب المتآلفة والمتحالفة، وحوّله من شخصية توافقية إلى طرف من أطراف التوافق بحكم الكتلة النيابية التي يحظى بدعمها، ولكن الأصحّ أنّ هذا الأمر لا ولم يحوّله إلى مايسترو اللعبة السياسية في البلاد ولا إلى الطرف الأقوى في التحالف الحكومي القائم، لا سيما وأنّ كتلته النيابية لا تزال تبحث عن خيط ناظم وعن هوية سياسية وعن مشروعية فكرية خاصة بها.
وإلى حين بروز المولود السياسي الجديد التابع ليوسف الشاهد، لا بد من توطين التحالف الثلاثي وتأمينه من كافة الرياح السياسية عبر البحث عن القواسم المشتركة التي قد تزيد من لحمته إلى حين الوصول إلى الانتخابات العامة.
هنا بالضبط، لعب الشاهد بالورقة السياسية الأهم في خطابه – الذي أخذ شكل استجواب – عبر الإشارة إلى مراجعة تجربة العدالة الانتقالية التي وصفها بالفاشلة.
للمرة الأولى في خطاب رسمي، يعلن الشاهد عن موقفه الصريح حيال تجربة العدالة الانتقالية وحول هيئة الحقيقة والكرامة ورئيستها. هذه المرة لم يرتد الشاهد قفازات المسؤول السياسي ولا التزم ببروتوكولات الخطاب الواجب اعتمادها بين الحكومة والهيئات الدستورية المستقلة.
هنا انحاز الشاهد لحليفه الجديد ممثلا في حزب المشروع الرافض للتمديد لهيئة الحقيقة والكرامة والمندّد بسياسة رئيستها سهام بن سدرين والتي اتهمها الشاهد بتسييس المسار وتحويله من سياق عدالة انتقالية إلى عدالة انتقامية، وبذلك بالمسؤولية التامة عن فشل التجربة الانتقالية.
ودون أن يترك مجالا للتفكير أو للظنّ – وليس كل الظنّ إثما – طمأن الشاهد النهضة وأنصارها بأنّ هناك مشروع قانون جديد في طور التشاور، لاستكمال مسار العدالة الانتقالية وتأمين مرحلة المصالحة التي يعتبر الشاهد أنّها لم تُنجز بعد.
هكذا يتودّد الشاهد إلى قواعد حركة النهضة من الذين لم يشملهم جبر الضرر المادي والمعنوي أو من الذين لم يتشفوا بعد من مساءلة النظام السابق، لا سيما وأن الكثير منهم قد عبروا مؤخرا عن استيائهم الشديد من هيئة الحقيقة والكرامة في أكثر من مؤتمر صحافي.
تصريح الشاهد يتقاطع مع دعوة توجه بها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي إلى نواب كتلته في البرلمان، لإصدار مبادرة للعفو التشريعي العام تستكمل مسار العدالة الانتقالية وتقوي لبنة المصالحة.
وكما استثمر راشد الغنوشي سياسيا في مسار العدالة الانتقالية أكثر من مرة، ووظفها خدمة لتحالفاته مرة مع المؤتمر من أجل الجمهورية وأخرى للتآلف مع حزب نداء تونس، يستغلّ الشاهد هذه المرة هذا الملف الحارق لترميم التحالفات الحزبية القائمة وهندسة التقاربات الانتخابية القادمة.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي
