في تونس اليوم لا نعيش فقط أزمة بطالة لكننا نواجه ما يمكن وصفه بـ"الانحراف الهادئ عن روح العقد الاجتماعي"، فهل ما يحدث هو مجرد أزمة اقتصادية؟ أم أن ما نعيشه أعمق من ذلك أزمة وجودية، أخلاقية وقانونية تعبر عن قطيعة قاتلة بين الجيل الحاكم وجيل الغد؟ وهل نحن أمام خرق سافر للدستور أم أمام تأبيد ناعم لسلطة الشيخوخة باسم التجربة؟ وهل يمكن حقا الحديث عن دولة قانون بينما يقصى أكثر من نصف الشعب من دائرة القرار لمجرد أنهم "شباب"؟
الأرقام تتحدث بوضوح صارخ جدا، فنسبة البطالة العامة تبلغ 15.4% بحسب المعهد الوطني للإحصاء (2024)، بينما تتجاوز نسبة بطالة حاملي الشهادات العليا 28.3%، في حين تبلغ نسبة بطالة الشباب بين 15 و29 سنة 36.6% وطنيا وترتفع في بعض المناطق مثل القصرين وجندوبة وسيدي بوزيد إلى ما يفوق 45%، كما يفوق عدد العاطلين من حاملي الشهادات الـ 260 ألف شخص نصفهم ينتظرون منذ أكثر من ثلاث سنوات فرصة عمل واحدة، فهل نحن أمام أزمة عابرة؟ أم أمام تجريم صامت لكفاءة الأجيال الجديدة؟ أليست في هذه الأرقام دعوة للتساؤل عن مدى تطبيق النصوص القانونية الدستورية؟
الدستور التونسي لسنة 2022 يقر في فصله 40 حق كل مواطن في العمل والمشاركة في الحياة العامة على أساس الكفاءة والإنصاف، كما يضمن الفصل 55 حرية التنقل والعمل والمشاركة العامة ولكن هذه النصوص لا تجد طريقها للتطبيق على أرض الواقع حيث تظل الأبواب مغلقة أمام الشباب في غالب الأحيان وتظل المناصب العليا محجوزة لفئة عمرية معينة، فلماذا يبقى الشباب محروما من حقه في المشاركة السياسية والإدارية الفاعلة رغم كونه الفئة الأكثر تضررا من البطالة والتهميش؟ ألا يتعارض ذلك مع روح الدستور الذي يعترف بحق الجميع في العمل والمشاركة؟
وفي سياق ذلك تتكرر ممارسات متجذرة في الثقافة السياسية التونسية حيث تبقى مواقع القرار محكومة بالتراتب العمري، فتبدو "الخبرة" وكأنها اختصار للسن، بينما تتحول الكفاءة إلى مسألة ثانوية لا تجد مكانا في دائرة التعيينات، فهل يجوز أن يحتكر القرار في البلاد من قبل من تخطوا الستين ويتم تجاهل جيل بأسره لا يمثل إلا 5% من القيادات السياسية والإدارية؟ أليس في ذلك خرق لمبادئ التمييز الإيجابي المنصوص عليها في الدستور والتي تهدف إلى تحسين أوضاع الفئات المهمشة؟ لماذا لا نجد لهذا التمييز أثرا في قوانين الانتخابات أو في قوانين الوظيفة العمومية التي تشرع الفجوة بين الأجيال؟
التساؤلات لا تتوقف هنا فقط، فإذا كان الشباب لا يصنع القرار فهل يحق له أن يحاسب عندما يحتج؟ وإذا كان القانون لا يحميه من التهميش فهل يبقى مطالبا باحترامه؟ وإذا أصبح "السن" معيارا للسلطة فهل ما زلنا داخل منطق المواطنة المتساوية؟ وإذا استمر احتكار الشيوخ للقرار فمن يمثل الأجيال القادمة في قضايا مصيرية مثل البيئة، التعليم، التحول الرقمي، والثورة الصناعية الرابعة؟
ما يحدث في تونس ليس مجرد ركود سياسي فقط، إنما تأسيس لمنظومة "سلطة عمرية" تخالف روح الدساتير والمبادئ العالمية للعدالة الاجتماعية، فالشباب ليس فقط مهما ولكن "مغترب قانونيا" داخل وطنه الأم وتونس التي قدمت للعالم مشهدا ثوريا غير مسبوق تجد نفسها اليوم أسيرة نخبة ترفض التقاعد السياسي وتخاف من فكرة التجديد، وما يحدث على الأرض يوضح أن المنظومة لا تعمل لصالح المستقبل بل تسعى لتثبيت أوضاعها الحالية على حساب التغيير.
كما وأن السؤال هنا لم يعد فقط لماذا يقصى الشباب؟ بل من يجرؤ على محاسبة من أقصاهم؟ وهل سيظل القانون سجين الأدراج بينما تداس روحه على أرض الواقع؟ إذا كانت العدالة تعني "وضع كل شيء في موضعه" فهل من العدل أن يوضع الشباب في الهامش والشيوخ في القلب إلى أجل غير مسمى؟ إننا نحتاج إلى ما هو أكثر من إصلاح نحتاج إلى عدالة جيلية دستورية تجعل من إقصاء الشباب جريمة سياسية لا مجرد نتيجة عرضية ونحتاج إلى إعلان وطني يعيد تأسيس العقد بين الأجيال على قاعدة الشراكة لا التبعية وعلى منطق الاستحقاق لا الامتياز، فهل من يسمع؟ أم أن الشيخوخة قد أصابت حتى الضمير السياسي الجمعي بالصمم؟