من الزيتونة إلى الغريغورية
غدا بمثابة اليقين لديّ، أن الإشكال الرئيس الذي يعاني منه الدرس الديني في مؤسساتنا التعليمية في تونس متلخص أساسا في أمرين: خضوع المقرّر التعليمي إلى وصاية سياسية توجه مساراته، ما انعكس على مضامينه وتطلعاته وآفاقه؛ ومن جانب آخر مجافاة منهج التعليم الديني للراهنية الحضارية، وهو ما يتجلى في غياب عناصر الواقعية، والعلمية، والمعقولية.
لم أكن قبل هجراني الزيتونة مقتنعا بالمنهج التعليمي السائد، لِما اتّسم به من قدامة وتقليد وسطحية وافتقار إلى البعدين النقدي والعقلي، في جلّ مواد العلوم الشرعية التي كنّا نتلقاها. وقد تبيّن لي جليا عقم هذا المنهج لمّا التحقت بوسَط أكاديمي كاثوليكي غربي، أقصد الجامعة الغريغورية، لفت انتباهي فيه تعاطيه المزدوج مع المسائل الدينية، وذلك ضمن مقاربتين، تنتهي كل منهما إلى الحرص على الإلمام بأبعاد "الكائن المتدين". حيث تتضافر الدراسة اللاهوتية الداخلية للدين مع الدراسة العلمية الخارجية له. وأعني بالدراسة الداخلية التركيزَ على دراسة علم اللاهوت المنهجي، وهو الاجتهاد لفهم مجمل الحقائق على ضوء تعاليم المسيحية، بما يماثل علم أصول الفقه لدينا؛ وعلم اللاهوت الرعوي، بما يضاهي دراسات الدعوة في جامعاتنا الإسلامية؛ فضلا عن اللاهوت التاريخي، ولاهوت الآباء، واللاهوت الروحي وغيرها من علوم الوسائل. تتضافر جميعا مع الدراسة الفلسفية ودراسة العلوم الاجتماعية، بما يسمح للدارس الإحاطة بمنهجين في معالجة الظواهر الدينية، أحدهما لاهوتي والآخر علمي، ويتيح له قدرات أرحب للتحليل والاستيعاب والفهم. فمن خاصيات المقاربة اللاهوتية أنها معيارية تحتكم سياقاتها إلى ما يتمتع به الإيمان من صدق، وهي تحاول أن تجيب عن أسئلة على غرار: ما الواجب علينا الإيمان به؟ وكيف نؤمن بالله؟ وضمن أي السبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي؟ وبشكل عام تتميز انشغالات هذا المقاربة في إقامة علاقة عمودية تصل الإنسان ببارئه، يتطلع فيها المرء إلى الانسجام الأمثل معه؛ وأما المقاربة العلمية والتي تستند بالأساس إلى الإناسة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والمقارنة، والظواهرية وغيرها، فهي تعنى بكل ما هو معتقَد من قِبل البشر، متطلّعة إلى فهم أكثر حداثة وأوفى إحاطة، بما يقدّمه كل دين لأتباعه، وباحثة عن التقاط معاني اللغات الدّينية ومفادها العميق. ولذلك كان علم الأديان يرصد ويقارن ويوضح ويسبر الأغوار، ويتفكر في الأمور بطريقة تحليلية نقدية توصل إلى توليف، متحوّلا من مستوى اختبار المقدّس المعيش إلى مستوى المفهمة.