مدينة القيروان تتجمل بأبهى حللها احتفاء بالمولد النبوي الشريف فتتزين شوارعها وأنهجها الضيقة وساحاتها، وتتعالى مكبرات الصوت بالمدائح والأذكار النبوية، فلا تجد مسجدا أو جامعا أو مقاما إلا ويصدح بصوت الذكر والصلاة والمديح عن النبي محمّد في ذكرى مولده.
القيروان (تونس) – تعيش مدينة القيروان طيلة أسبوع على وقع الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف والتي تبلغ ذروتها وختامها الثلاثاء، وسط حضور ما يقارب 600 ألف زائر قدموا من الجهات الداخلية والدول العالمية.
ودأبت المدينة الواقعة وسط تونس على بعد 170 كيلومترا جنوب العاصمة على أن تكون قبلة للزائرين والسياح في مثل هذه المناسبات، لاحتوائها على معالم دينية مهمة فضلا عن رمزيتها وعراقتها كعاصمة أولى للإسلام في منطقة المغرب العربي منذ القرن السابع الميلادي.
وعمّت أرجاء المدينة حركية تجارية واقتصادية ساهم فيها معرض تجاري وفلاحي ومعرضان آخران للصناعات التقليدية كما تزينت واجهات المحلات التجارية بالأواني النحاسية والمنسوجات الصوفية ومختلف المصنوعات التقليدية من ملابس نسائية مثل “الحايك”، وبحلي صنعت من العنبر والنحاس المطروق وأصناف متنوّعة من الحلويات التقليدية على غرار “المقروض” الذي تتميز به الجهة، فيما فتحت المساجد والزوايا أبوابها لاستقبال الزوار الذين توافدوا من كل حدب وصوب.
وانطلقت الأجواء الاحتفالية الروحانية في مقام أبي زمعة البلوي، وسط حضور المئات من الزوار لمواكبة مسابقة المدائح والأذكار التي تشارك فيها العديد من الفرق من مختلف محافظات الجمهورية.
وتستقبل جمعية ”أوفياء القيروان”، زوارها بحلويات المقروض والعصائر والمياه وتقدمها لضيوفها عند مدخل المدينة.
وتوافد عدد هام من السياح الأجانب إلى المعالم الإسلامية في المدينة، أغلبهم من المناطق الداخلية والدول العربية وخاصة من الجزائر، وكذلك الأوروبية وخاصة من إيطاليا وفرنسا، إضافة إلى سياح جدد قدموا من الصين، كما يؤكد مندوب السياحة في القيروان خالد قلوعية.
وتتواصل فعاليات المولد وسط تعزيزات أمنية مكثفة، كما صرح محافظ القيروان منير الحامدي الذي دعا إلى التمتع بمختلف فقرات المهرجان التي تتنوع بين العروض الفنية والصوفية تتوزع على عدد من فضاءات المدينة.
ويرجع المؤرخون بداية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى الدولة الفاطمية الشيعية التي تأسست بداية في تونس خلال القرن العاشر الميلادي، قبل انتقالها إلى مصر في العام 973 الميلادي. وتعد ولاية القيروان مركز الاحتفالات بذكرى المولد النبوي الشريف، ويرجع ذلك إلى القيمة التاريخيّة لهذه المدينة، ويكون الاحتفال عن طريق حلقات الذكر والإنشاد الديني والابتهالات ومسابقات حفظ القرآن.
ومن أهم العادات القيروانية خلال فترة الاحتفال بمولد نبي المسلمين ارتياد المساجد والجوامع في أجواء روحانية خاشعة، واختيار أجمل الأصوات لتلاوة القرآن، واجتماع الآلاف من المصلين ليلة المولد النبوي في صحن جامع عقبة للصلاة وتلاوة القرآن وتنظيم مسامرة دينية.
ويعدّ مقام أبي زمعة البلوي الشهير بـ”السيد الصحابي” محور الاحتفال بالمولد النبوي الشريف فهو يعيش منذ أيام أجواء استثنائية وصار قبلة للآلاف من الزائرين.
وأقيمت في ساحته خيمة ضخمة وتم تركيز مضخمات صوت خصصت للمسابقات في المدائح والأذكار التي تتبارى فيها فرق الإنشاد الصوفي وفرق “العيساوية” و’السلامية” التي تتغنى بخصال ومحاسن النبي محمّد لتختم في ما بعد بإعلان الفائز في المسابقة. ولا يزال أهالي القيروان يحافظون على عادات وتقاليد توارثوها منذ عقود، فإضافة إلى الاحتفالات التي تقام في دور العبادة، يتم يوم المولد النبوي ختان الأطفال وإتمام مراسم الخطوبة، أو ما يعرف بقراءة الفاتحة، كما تحتفل العائلات التونسية بإعداد العصائد بنكهاتها العبقة، حيث تتولى ربات البيوت طهيها قبل يوم وتزيينها وزخرفتها بحبات الفاكهة وتقديمها إلى الأهل والجيران أثناء تبادل الزيارات.
لقد تضاعفت مجهودات عمال النظافة في شوارع وأزقة القيروان، كما تمت صيانة مصابيح الإنارة العمومية وتعليق الرايات واللافتات التي كتبت عليها آيات قرآنية وأحاديث نبوية، إلى جانب تعليق مصابيح الزينة في محيط المعالم الإسلامية مثل جامع عقبة وجامع الأنصاري ومقام أبي زمعة البلوي.
وقال رئيس بلدية القيروان رضوان بودن، إن البلدية، وفي إطار تحضيراتها للاحتفالات بالمولد النبوي ضاعفت من فرق النظافة وتوزيع أفرادها بين أحياء المدينة، كما قامت بتجديد شبكة التنوير العمومي بالساحات وفي محيط المعالم الدينية والمسالك السياحية، كما قامت بعمليات تنوير تزويقي لإظهار المدينة في حلة ضوئية جذّابة للزوار. واستحسن سكان القيروان هذه البادرة التي جعلت المدينة تبدو في أبهى حللها، لكنهم تساءلوا في المقابل لماذا لا تتواصل هذه الحملات حتى تظل المدينة كالوجه الصبوح في عين أهلها وزوارها على الدوام.
وقد استعد تجار القيروان لهذه المناسبة بتنظيم معرض تجاري، يقدّم مختلف المعروضات من صناعات تقليدية وأهمها الزربية القيروانية وملابس جاهزة وأثاث وأغطية ومفروشات وحلويات وغيرها من المعروضات، نذكر من بينها مفروشات سورية المنشأ والقفطان المغربي بصناعة تونسية. ويشارك في المعرض الذي جاء في شكل خيمة نصبت خلف جامع عقبة بن نافع أكثر من 50 عارضا من أجل تقريب المعروضات للزوار. كما نظم اتحاد الفلاحين بالجهة سوقا من المنتج إلى المستهلك يعرض فيه الفلاحون عدّة منتوجات، على غرار العسل الذي تحتل المحافظة المرتبة الأولى على المستوى الوطني من حيث الإنتاج، إضافة إلى زيت الزيتون والقوارص، وغيرها من المنتوجات التي يقبل على اقتنائها الزوار.
ويؤكد المشرفون على تنظيم احتفالات المولد النبوي على أن هدفهم الأساسي، هو أن تسترجع عاصمة الأغالبة بريقها ورونقها وخصوصياتها كأول مدينة عربية إسلامية في شمال أفريقيا، وأن تكون عن جدارة قطبا للسياحة الثقافية والدينية.
وقال رئيس “مؤسسة القيروان” رفيق عمارة، “بما أن القيروان هي أول مدينة عربية إسلامية في الشمال الأفريقي، فإنها تختزل عبر تاريخها كنوزا لا نهاية ولا مثيل لها على الإطلاق. كما أن تاريخها وتراثها الغزير ومخطوطاتها النادرة والمتنوعة الموجودة فيها… كل هذه الأشياء تجعل منها مدينة ثقافية وإسلامية فريدة في نوعها وفي حجمها. ولا شك أيضا في أن القيروان تحتضن أقدم منبر وأقدم محراب في العالم العربي الإسلامي، إذ يعودان إلى عهد الدولة العباسية”.